مع الثقافة نغامر وبها نبني

مغامرة الثقافة

د. علي منير حرب

الجمعة في 31/08/2018

 

محاضرة ألقيت في مكتبة الشرق الأوسط، وحضرها عدد من المهتمين والكتاب والشعراء، تلبية لدعوة من “صالون هتاف الشعر الثقافي”، برئاسة مؤسسته شاعرة الأرز السيدة هتاف السوقي صادق، التي تكرّمت بتنظيم هذه الندوة.

صديقاتي وأصدقائي في مغامرة الثقافة (وأرجو ألا تثير لفظة المغامرة تساؤلكم طويلاً) فالتبرير قادم سريعًا.

أحييكنّ وأحييكم جميعًا  لمشلركتكم، ودعوتي لركوب هذه التجربة معكم في القطار المتوجه الى عوالم وكواكب مدهشة وغير مألوفة.

أصدقائي،

لماذا اعتبرت ارتياد فضاء الثقافة مغامرة؟

لا شك أنكم تدركون ما تحمله كلمة مغامرة من طموح وجرأة واقتحام والتحام ومواجهة وخطورة واحتمالات النصر أو الهزيمة أو الموت.

وكل هذه المعاني تستوجب بالدرجة الأولى، امتلاك مجموعة من الأسلحة والدروع، تبدأ بالاستعداد النفسي والفكري  واللغوي والجسدي، ولا تنتهي بالارادة والعزم والخبرة والتجربة والمعاناة والانكسار والنهوض.

الله…الله… الله… كل هذا من أجل تجربة ثقافية، مهما علا شأنها أو انحدر؟!…

أجل وألف أجل، كل هذا وأكثر، من أجل تجربة ثقافية عالية في شأنها لترفع معها العقول والقلوب والظنون والجمال والألوان والخيال والصور، ولكن دون أن تنحدر أبدًا كي لا تفرغ من معانيها الجليلة والرفيعة والسامية.

هكذا يطيب لي أن أخوض المغامرة، ولا أغامر بغير ذلك.

ألا يطلقون صفة المغامرين على روّاد الفضاء لخدمة العلم واكتشاف عوالم وكواكب جديدة تثير دهشتنا وتنسينا روتين الأرض وحياتنا المعلوكة كل لحظة بما هو مجترّ واعتيادي ومألوف؟

ألا يطلقون صفة المغامرين على الذين يقتحمون اللجج الداكنة لاكتشاف أعماق المحيطات وتصوير أبهى وأروع ما خلقه الله من كائنات عجيبة وغريبة وغير صديقة لعيوننا وأسماعنا وحواسنا الأخرى؟

ألا يطلقون صفة المغامرين على كل الروّاد الذين واجهوا أخطر لحظات الموت وهم يقتحمون المجاهل والمغاور والغابات، من أجل هدف واحد، هو الاستجابة للضجيج الصاخب في دخائلهم وإعلان انتصار الإنسان الذي مكّنه الله سبحانه من النفاذ من أقطار السموات والأرض؟

وهل تقل برأيكم، أي تجربة ثقافية رائدة، عن كل هذه المغامرات؟

إنني أزعم، بل وأؤكد، أن أي تجربة ثقافية ناجحة، وأشدّد على صفة “ناجحة”، لا يمكن أن تقلّ رونقا وبهاء وإثارة وإقدامًا عن أية مغامرة أخرى، علمية كانت أو رياضية أو اجتماعية أو غير ذلك.

وسوف أقف في هذه المغامرة عند الشعر تحديدًا.

أليس الشاعر الشاعر برأيكم، هو من أسبق المغامرين في دنيا الثقافة؟

فعندي، أن الشعر هو الأرقى والأروع والأكثر اكتمالًا وإبهارًا وعصفًا وإثارة، من سائر الفنون الأخرى، لأنه يحمل في طياته فكر المفكرين، وأدب الأدباء، وحكايات القصّاصين، وأحداث المؤرخين، ولوحات الرسامين، ونغم الملحنين، وصوت الثائرين والحزانى والمنتصرين والمهزومين، ولوعة العاشقين وشغف المفتونين بالجمال والضياء، كما يحمل حكمة المجرّبين وموعظة التائبين الأنقياء، وكما أنه رفيق الساهرين والحالمين بالسفر إلى نجوم وأقمار وشموس من غير عالمنا ودنيانا وطبيعتنا.

لا بل أنني أزعم، بأنني عندما أتحدث عن الشعر، فإنني بالتأكيد أتحدث عن الحياة، عن كل ما في هذه الحياة، وعن كل ما يربطنا بها ويشدنا إليها.

الشعر هو كل الثقافة وهو كل المغامرة.

والثقافة، بوجه عام، مهما كان منبعها ولونها ومهما كانت مراميها، تراها جزءًا أصيلًا وثابتًا من مكوّنات الشعر.

والشاعر، كما هو فنان ورسّام وموسيقار، فهو في آن حكيم ومؤرخ وثائر وعاشق، وقبل كل هذا، وبعد كل هذا، هو لاعب لغوي من الطراز الرفيع، يعرف كيف يستنبع لغته ومفرداته وقوافيه، دون خلل أو نشاز.

إنها يا أصحابي مهارة الانسجام التام ما بين الفكر واللغة والتعبير.

والأمر الذي، أودّ أن أشير إليه في حديثي اليوم، هو أنه، ومع الأسف الشديد، فإن الذي أطلقوا عليه “ديوان العرب”، لم يعد فعلًا ديوانهم، بل أضحى ركنًا صغيرًا مهملًا من أركان عماراتهم الثقافية الأخرى. الشعر كثير والشعراء قليلون.
يؤكد ما أقول، ما راج في الآونة الأخيرة من نتاج ادّعى صفة “ديوان الشعر”!…وتسابق أصحابه للوصول إلى منابر مواقع التواصل الاجتماعي. لاسيما تلك التي لا تراعي ولا تهتم بالحدّ الأدنى من القيم المعنوية أو الشكلية أو الجمالية، وينطبق عليها ما قاله محمود درويش: “قصائدنا بلا لون بلا طعم بلا صوت.”

وخلاصة القول إن الشعر لدينا – نحن العرب – يعاني من فقر الدم ومن تخثر الدم في عروقه، بسبب السكون وعدم التجديد، والقحط في الإبداع، والقصور في الخيال، والإسفاف والعيوب في اللغة التي هي عماد الشعر كله، وكيف لا واللغة، هي الأداة الأولى والأخيرة، التي يجب أن يمتلكها أي  شاعر أو أديب أو مفكر، أو مثقّف بوجه عام، لينقل عبرها، وفي الشعر تحديدًا، فكره ورؤاه وصوره وألحانه وخيالاته ومشاعره وقوافيه. وإذا ما فسدت هذه الأداة فسدت الطبخة كلها.

هي دعوة صريحة لمن يرغب في ركوب مغامرة الشعر، لكي يشحذ أسلحته من جديد، فيطوِّرها ويرتقي بأسلوب المغامرة، بما يشتمل عليه من أدوات التجديد في التعبير واللغة والأفكار والموضوعات والصورة الفنية والثقافة.

يقول نزار قباني في هذا الصدد:

“أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغةَ القديمة

والكتبَ القديمة

كلامنا المثقوب، كالأحذية القديمة..

ومفرداتِ العهرِ، والهجاءِ، والشتيمة

لا بدَّ أن نخجلَ من أشعارنا

يا أصدقائي:

جرّبوا أن تكسروا الأبوابْ

أن تغسلوا أفكاركم، وتغسلوا الثياب”!

ويقول أدونيس “إن القصيدة العظيمة حركة لا سكون”

لنقرأ ما يقوله محمود درويش عن تجربته مع الشعر “أنا لا أشعر نفسي شاعرًا ناضجًا، لا أشعر بالرضا الفني وأنا أحد الذين يعتقدون بأن الفنان الذي يتوصل إلى الرضا عن نفسه يفقد مبررات استمراره. صحيح أنني نجحت في تحسين أدواتي الفنية، ونجحت في قهر تناقضاتي ولكني لا أشعر بالرضا الفني”. الشاعر الحقيقي هو الذي يسعى، دون كلل، إلى تطوير ذاته باستمرار وإلى اكتساب المزيد من الخبرة والتجربة والثقافة والقراءة!

لا أريد أن أدخلكم هنا، وفي هذه الأمسية، إلى متاهات العيوب والقصور والأخطاء، فنية كانت أو معنوية أو لغوية أو شكلية، وكما لا أريد أن أقحم عليكم سكونكم بمصطلحات سيبويه ونفطويه، وبحور الخليل، إنما رغبت أن ألمّح الى ما أردت تلميحًا سريعًا، فلعله دفعة لامتشاق السلاح المكين الذي يتيح لنا خوض المغامرة، باستعداد شبه كامل.

أما إذا أردت يا صديقي، أن يبقى شعرك كبسولة تساعد القارئ على النوم، فهذا شأنك.

وإلا، فلكي تستحق أن تكون شاعرًا مغامرًا فعليك أن تثير بشعرك القلق وتسحق النوم، أن تشعل لدى القارئ نارًا خامدة لتعيد إليه الاحساس بالجمال والحياة. وتدعه يشهق عجبًا ودهشة.