في الجذور
كلاهما مدمّران: التحنيط والتفريط
Whispering Dialogue
www.whisperingdialogue.com
د. علي منير حرب
كندا في ٢٦/٠٦/٢٠٢٢
خاص: مجلة همس الحوار – عدد تموز ٢٠٢٢
“في ميدان القتال أو في غرف التعذيب أو على متن سفينة تغرق،
تغدو كل القضايا التي تحارب من أجلها طي النسيان دائمًا،
وذلك لأن جسدك يظلّ يتضخّم حتى يملأ عليك العالم فلا ترى سواه.“
(جورج أورويل)
لا حياة ولا نموّ لكائن بلا جذور.
بالجذور تعرف الأصول والفصول، والأحساب والأنساب، كما يعرف المرء ببصماته وفحوص جيناته.
وما زلنا في أمثالنا العربية نمدح ذا الأصل والفصل، ونذمّ من فقدهما. كما ما زلنا نلحّ ونتمسّك بأصولنا، اعتدادًا وشرفًا، فنقول كما يقول غيرنا: فلان أميركي من أصل عربي أو يوناني أو…
كما ما زالت تهزّنا وتضنينا كل النكبات التي حلّت بنا وبالآخرين جرّاء طرد السكان “الأصليين” من أرضهم وديارهم، و”اقتلاعهم من جذورهم” إبادة وتهجيرًا. وإذا اعتبرنا أن القيم الثقافية بمجملها، وبمختلف وجوهها وأنماطها، وعند الأمم جميعًا، هي نتاج هذه الجذور وثمارها، يمكننا أن نفهم مسألة التعلّق بالجذور، أو التصاقها بأنسجتنا، والتي تعدّ الوعاء الحافظ للموروث الماضوي الذي يمثّل الهوية الشخصية، كما المصدر الأساس للكرامة والاعتزاز والفخر. من بديهيات طبيعة الجذور ووظائفها، أنها كالشرايين، تتكفّل بنقل الدم المنقّى لتستمرّ الحياة. فإن تيبّست تعثّر مجرى الدم فتخثّر، وإن تسيّلت تدفّق الدم فأهرق، وفي الحالين تهديد للحياة. الجذور هي المشكّلةً للكيان والشخصية والهوية، وما يعرف بالتراث الثقافي، للشعوب والأفراد. وهي التي منحتهم تميّزًا واختلافًا، وأتاحت خاصّية التنوّع والتكامل في القيم والمعارف. والجذور في طبيعة تكوينها، بقدر ما تتّصف بالأصالة وبإنتاج المحاصيل الكريمة والطيبة، بقدر ما يمكنها أن تصدّر الشوك والعلقم، نظرًا لما تتمتّع به من صلابة وعصيان على الانكسار، ومن رهافة وحساسية مفرطة إزاء كل المثيرات التي تستفزّها والتي تعتبرها مناوئة ومتعارضة لأحد عناصرها، فتتحوّل من عامل إحياء وبناء إلى عامل قتل وهدم وتدمير، فلا تتورّع عن اجتياح كل ما تعتبره مهدّدًا لوجودها وسطوة حضورها. تحنيط الجذور وتقديسها يقول الشاعر العربي ابن الوردي: “لا تقلّ أصلي وفصلي أبدًا إنما أصل الفتى ما قد حصل بين تبذير وبخل رتبة وكلا هذين إن زاد قتل.” الجذور، وبشهادات التاريخ، كما كانت صانعة للحضارات كانت أيضًا وراء الأسباب التي أدّت إلى انهيارها وانبعاث أخرى على أنقاضها، في الأديان كما في الشرائع والسلطات الزمنية، في العمران كما في الأفكار والفلسفات، في القوانين كما في الآداب والفنون، في السائد من الثقافات والقيم كما في المستحدث منها والمولّد. من هنا، فإن مادة “الجذور” تمثلّ في حياة البشرية إشكالية كبرى، راوحت بعيدًا في المتناقضات، بين التقديس والتدنيس، وبين العبادة والنكران. إن المحاولات التاريخية المتواترة عبر آلاف السنين، والداعية إلى الاجتهاد، أو التعديل أو التحديث أو التغيير في نمطية وهيئات وتكوينات الجذور التراثية، شكّلت باستمرار، اعتداء صارخًا مرفوضًا، لأنها تمثّل انقضاضًا على موروثات الأجداد، وخروجًا على ثوابتهم المترسّخة والقابضة على ناصية الحق والصواب، وطعنًا لأعزّ وأشرف ما يتملّك المرء من خصال ومواصفات وقيم غير قابلة للمسّ او النقض أو الاعتراض. والتي يصفها الروائي الإنكليزي جورج أورويل بأنها “استمرارية رؤية للعالم و أسلوب حياة يفرضها الموتى على الأحياء”، ويتوجّب بالتالي انفجار ألغام مكنوناتها لمواجهة قمعها وإزالة الداعين لها من الوجود، ردعًا لكل من تسوّل له نفسه فكرة الاجتراء على هذا المكنون الثمين. من هنا أيضًا تتبدّى كل السجالات الدائرة في هذا المجال، والتي اتخذت مسميات مختلفة، فتارة هي صراع بين التراث والحداثة، أو بين “الأصالة والمعاصرة”، أو بين “الثابت والمتحوّل”، وطورًا بين “العقل والنقل”، أو بين “النقل والإبداع”، ولم يكن كل ذلك في جوهره إلّا مظهرًا من مظاهر الصراع الأزلي الدائر بين قديم متجذّر وجديد متحوّل، بين أمس بعيد متحكّم وحاضر معترض مطالِب بالتأقلم مع معطيات الواقع وظروفه. منذ الطوفان العظيم، والمحرقة التي ألقي فيها إبراهيم الخليل، وما تلاها من وقائع قوم لوط والصلب والتهجير والإعدامات والاغتيالات والحروب والاستعمارات، ومنذ كل تلك الانهيارات التي رافقت حياة الإنسان على هذه الأرض، والمشاهد نفسها ما زالت تتكرّر وتتوالد، وإن بدت بصور مغايرة استمدت اختلافاتها مما اجترحه العقل البشري من وسائل وأدوات في فنون الحضارة والمدنية كما في فنون التدمير والفناء. وها هي تمثل أمامنا بوضوح ويلات الاستعمار والغزوات والحروب الأهلية والدولية وإفساد الأرض والبيئة وتناسل الجوائح. إن من أبدع ما أنجزه العقل البشري في حقول العلوم والاقتصاد والتكنولوجيات، وفي تطورات الأنظمة السياسية والحقوق الإنسانية، نسفته حقائق الرعب والهلع من “نهاية التاريخ وصدام الحضارات” و”الهويات القاتلة” و”غرق الحضارات”. ولا يعوزنا التفكير الطويل، فيما نحن نفتّش عن الأسباب التي قادت السفن الإنسانية إلى الغرق، لنجدها كامنة في المفارقة العجيبة للجذور: باعثة للحياة، وقاتلة لها في آن. بماذا تختلف مقصلة سقراط الذي اتهم بإنكاره الآلهة وإفساد العقول قبل ما يزيد عن ألفين وأربعماية عام؟ وبماذا تختلف مقصلة غاليليو قبل ستماية عام وإدانته من قبل محاكم التفتيش الكاثوليكية بتهمة دعمه لنظرية مركزية الشمس؟ ألم تكن الأديان التوحيدية كسرًا لموروث أصحاب الأديان والمعتقدات القائمة على الشرك في الألوهية والعبادة؟ والتي وصفها الفيلسوف الدكتور علي شريعتي، الذي قتل هو أيضًا بسبب أفكاره ودعوته، بأنها “الدين ضدّ الدين.” ولماذا تمّ إعدام فيلسوف الصوفية الحسين بن منصور الحلّاج؟ ولماذا قامت حروب الفرنجة؟ وماذا عن إبادة السكان الأصليين وأغطية الطاعون في أميركا وأستراليا؟ وماذا عن العثور، في تموز / يوليو ٢٠٢١، على آلاف الضحايا من أطفال السكان الأصليين المدفونين في قبور بلا لاشواهد، بالقرب من مدرسة كاملوبس إنديان ريزيدنشيال، وهي مدرسة داخلية في مقاطعة بريتيش كولومبيا الكندية؟ وماذا عن اجتياح فلسطين؟ وماذا عن هجمات الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١؟ ومَن كان وراء إحياء الفكر الظلامي للإرهاب؟ ألا تتكئ الصهيونية على الجذور لتبرير حقّها في أرض فلسطين؟ وفي المقابل ها هم اليهود الأصوليون يتمترسون وراء الجذور أيضًا للتحذير من زوال دولة إسرائيل. ألم يتوسّل هتلر جذور النزعة النازية والتفوّق العرقي الألماني ليجتاح العالم ويدخله في أتون حرب مدمّرة؟ جبال هائلة من الشواهد الدامغة تحضر في هذا الصراع، والذي لا يمكن تفسيره إلا بعلّة واحدة وهي الجموح في تحنيط الجذور وتحجّرها وتصنيمها وتقديسها للعبادة، وغرق أصحابها في أنفاق حالكة الظلمة من العقل الإيماني المغلق، ومن العزلة والتقوقع، ما ولّد التعصّب والتشدّد والعنصرية والتطرّف ونزعات التفوّق العرقي أو العقائدي أو الجنسي، وما صحب ذلك من كراهية وأحقاد وانتقام ونبذ للآخر ورفضه والإمعان في تغييبه. وتمتلئ ذاكرات التاريخ بضحايا المجازر الدينية التي انتشرت في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، والتي وصفها الروائي الفرنسي ميشال زيفاكو في روايته التاريخية “شهداء التعصّب”، بأنها “أبشع مجازر التعصّب الديني الأعمى التي ذُبح فيها جمهور غفير من الرجال والنساء والأطفال حتى تضرّجت كل فرنسا بالدماء”. في ملحمته الروائية التاريخية، “الجذور” ” والتي تحوّلت إلى مسلسل تلفزيوني جذب عشرات ملايين المشاهدين في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، والتي تنادي بالمساواة بين البيض والسود ونبذ العنصرية وتوفير الظروف التي تليق بكرامة الإنسان، يقول مؤلفها أليكس هيلي: “كانت هذه الرواية صرخة لإثارة ضمير الناس ضد الاضطهاد العنصري وضرورة إقرار المساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.” وإن تخلّف العالم العربي وفقدانه لأسس اليقظة والنهضة واحتجازه في “المأزق التاريخي والمستقبلي” كما وصفه الشاعر “أدونيس” إنما حصل بفعل “استحواذ المسار التقليدي وغياب مسار الأسئلة الكيانية” ما عطّل حركته ومنعه من “خوض جولات الإبداع والابتكار”. ويرى أدونيس أن “هذا المأزق يتمثل في نبذ التراث وتجاهل إشعاعاته والقصور عن بلوغ الوقفة النقدية منه،” كما يكاد يجمع معظم المفكّرين والفلاسفة العرب على أن معضلة الفشل الحضاري الذي يعانيه العرب تعود أسبابه إلى التشبّث الأعمى بالجذور والانكفاء داخل أسوارها “وعدم دخول المجتمع في نمط جديد من الحياة يستلزمه ما جرى في العالم من تطورات علمية وصناعية واقتصادية وسياسية واجتماعية وغير ذلك”، على حدّ قول الدكتور معن زيادة. ويدعو الأديب والمؤرّخ (أمين الريحاني) إلى إحداث ثورة للتغيير ويصفها بأنها: “الثورة على القديم الذي أمسى عقيمًا وباليًا، إن كان في الأحكام أو في الآداب أو في العقائد أو في العلوم.” التفريط في الجذور وتفتيتها في الوجه الآخر لعملة تحنيط الجذور، تواجهنا صورة التفريط بها على أبشع ما أورثنا التحنيط وما اقترفه بحق البشرية وحضاراتها من آثام وجرائم. ففيما كان أصحاب التنوير وجهابذة العقل والوعي، يعلنون ثورتهم العلمية الرائدة لكسر التابوهات الجذرية الأيديولوجية، والممارسات الكنسية الفاسدة، التي أغرقت أوروبا في الظلم والتخلّف، كانت المختبرات والدوائر تنكبّ على اجتراح النظريات والوسائل لاستئصال هذه التقاليد من جذورها ودفنها في غياهب التاريخ، وصولًا إلى تأليه العلم وتقديسه. إن الثورة العلمية التي حقّقت عصور النهضة الأوروبية، سرعان ما وقعت في الجموح والتفريط هي الأخرى، وذهبت في دعواتها وإجراءاتها إلى أقصى حدود التحرّر والتفلّت من المنظومة القيمية، وأمعنت في ردّات أفعالها بدعوى نقل العالم والإنسانية إلى مستقبل أكثر إشراقًا وعدلًا. ولكن، ما لم يدركه هؤلاء الجامحون، أنهم كانوا، بهذه المغالاة والإفراط في التحلّل، يستنبتون مقابل “الجذور القاتلة”، جذورًا جديدة طائشة، أو ما يمكن وصفه “باللاجذرية” العشوائية، والخارجة على مبدأ الجاذبية القيمية التي تحفظ ثبات الحياة الإنسانية، والتي سوف تشدّ على عقولهم ورقابهم، وتحوّلهم، كما السابقين، إلى أسرى التطرّف وإلغاء الحكمة والمنطق، واحتكار المعرفة والحقيقة من جهة، وإلى استيلاد مواقف وردّات أفعال أشدّ تطرّفًا من قبل الجهات التي زعمت هزيمتها من جهة أخرى. إنه ردّ فعل منطقي ومتوقّع، فكل فكر أو فعل يجنح نحو الغلو سوف يقابل بالمغالاة، وكل توجّه نحو الطرف سوف يقابل بالتطرّف، إن الإفراط هو ردّ فعل منطقي للتفريط. وهذا ينطبق على التيارات الاجتماعية والعقائدية، وعلى القضايا الفكرية والدينية في المجتمع. ردّ الفعل هذا، يسميه المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، بـ “الهجوم والدفاع”، ويفسّره على أساس مبدأ الهجوم والدفاع أو الأفعال وردّ الأفعال، أي “أن البشر دائمًا في حالة تفريط أو إفراط، يجنحون إلى الماديات فيظهر ردّ الفعل، فيفرطون في الروحانيات، وعندما تتوقف عجلة حياتهم بسبب هذا الإفراط يعودون إلى الماديات.” وهكذا عاد العالم، بشرقه وغربه، يرزح مرة أخرى بين مآسي الكمّاشتين التحنيط والتفريط. فقد أنتجت النظريات العلمية النهضوية مناهج وأنظمة وأساليب اعتبرتها منسجمة مع أهدافها وغايات ثورتها، لكنها بالحقيقة كانت على قياس مصالح أصحابها ومكاسبهم ونزعاتهم في التزعّم والهيمنة، فكانت الديموقراطية والليبرالية والعلمانية والمدنية، وكان الانفتاح وآفاق التجارة الحرّة والأسواق المفتوحة، والعولمة وتقليص المسافات بين دول العالم، كما راجت تصنيفات الدول وترتيبها وتوزيعها على درجات ضمن معايير محدّدة. وفي الوقت الذي كان يعكف فيه العلماء والمفكرون، على تحقيق المبتكرات العلمية، الصناعية والتقنية والطبية، واكتشاف الفضاء وسبر أعماق المحيطات، كانت المصانع السوداء تسهر على إنتاج وتطوير وسائل الموت والفناء. وحتى لا أكرّر ما يشهده العالم من ويلات بفعل هذا التفريط، سأكتفي بتسليط الضوء على بعض القضايا التي تنذر بأخطار مستقبلية تتربّص للعالم كله، لأن تفتيت الجذور ودكّ أسس التراث سوف يعيد البشرية إلى كوارث ما قبل التاريخ وما قبل الحضارات. أتابع منذ مدة ما يدور في أروقة الغرب من سجالات حادة وخطيرة حول مسائل الحريات والحقوق. باسم هاتين القيمتين، وباسم العلمانية والديموقراطية، شاعت عمليات انتهاك حرمات الأديان والأنبياء والقديسين إلى حدّ السخرية والاستهزاء والطعن، وإلى حدّ الاعتداءات العنصرية والكراهية، بعيدًا عن منطق الجدل العلمي والمنطقي. وطفت على السطح قضايا حيازة السلاح، وحرية الإجهاض، وإباحة العلاقات الجنسية والترويج للمثلية والشذوذ الجنسي. قبل يومين من كتابة هذا البحث، وفي 24/06/2022 تحديدًا، تناقلت وسائل الإعلام انتقاد الرئيس الأميركي جو بايدن القرار الذي أصدرته المحكمة العليا الأميركية بإبطال حكم أساسي في حق الإجهاض. وقال “إن صحة وحياة النساء في بلادنا أصبحت الآن في خطر.” معتبرا أن هذا القرار يعود بالبلاد 150 عامًا للوراء. في المقابل، شهد هذا الإجراء تأييدًا كبيرًا من جهات مختلفة تعتبر قضية الإجهاض تهديدًا للقيم التقليدية، كما أنه تهديد لنسيج الأسرة جنبًا إلى جنب مع التطوّرات الاجتماعية الأوسع مثل حقوق المثليين وارتفاع معدّلات الطلاق وغيرها من القضايا المثيرة للمخاوف لمجتمع آخذ في التحرّر من كل القيود. كما تثار أيضًا قيمة غير مفهومة عند الأمم والشعوب الأخرى، ولا تقلّ خطرًا عن المسائل السابقة، مثل أن تكون قيمة حرية حيازة السلاح واستخدامه تتفوّق على قيمة الحفاظ على حياة البشر، وهي مسألة تؤكدها الإحصائيات المؤلمة المتعلقة بعدد ضحايا عمليات القتل المسلح بشكل يومي هستيري. هذا النوع من التناقض في القيم والأولويات سيبقى محيرًا مع الحالة المصاحبة لدعم وترويج فكرة قبول وحماية حقوق المثليين. في كتابه “موت الغرب”، يكشف الكاتب الأميركي “باتريك جيه بوكانن”، عن خطورة الانهيار الأخلاقي في الغرب، وأثره المدمّر في المستقبل المنظور، ويُنبّه إلى أن الموت الذي يلوح في أفق الغرب، هو في الواقِعِ موتان: موت أخلاقي، بسبب السقوط الأخلاقي الذي ألغى كل القيم التربوية والأسرية والأخلاقية التقليدية، وموت ديموغرافي وبيولوجي بسبب النقص السكاني، وعزوف الشباب عن الزواج، ومنع الحمل والإجهاض والعلاقات الجنسية خارج إطار المؤسسة الزوجية وتشجيع العلاقات الشاذة المنحرفة بين أبناء الجنس الواحد، وارتفاع حالات الانتحار بين المراهقين الأميركيين، ونقص المواليد، والإدمان على المخدرات… وقد سبقه الكاتب الروائي الديستوبي جورج أورويل في هذا الرأي فقال: “ان ما يميز حقًا الحياة العصرية لم يكن قسوتها أو انعدام الطمأنينة، وإنما هو العري والانحطاط واللامبالاة.” يذكر الكاتب والروائي الإنكليزي هربرت جورج ويلز: “أن تاريخ البشرية لم يكن سوى كتب داخل صناديق مقفلة بالنسبة للشخصيات التي التقت لتأسيس عصبة الأمم المتحدة، لم يكونوا على علم بتاريخ الإنسان، ولم يكن ممكنًا أن يأتوا بمؤسسة تستطيع أن تخدم الإنسانية وتعالج مشاكل البشرية، لأن من يجهل التاريخ لا يستفيد من عقله.” وتبقى في رسم المستقبل آية الآيات في القرآن الكريم: “إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ.” وما قاله السيد المسيح في الإنجيل: “إذا كان النور الذي فيك ظلامًا، فالظلام كم يكون؟” ويبقى حائرًا السؤال الكبير: إلامَ يبقى العقل عاجزًا عن ترويض الوحش وخلع أظافره وأنيابه؟!
فالنهضة الأوروبية كانت بداياتها مع الحداثة التي فسّرت ما أُطلق عليه “عصر النهضة” باعتباره ثورة انتقامية من التقاليد الكنسية الفاسدة التي خيّمت على أوروبا طوال القرون الوسطى، وإحلالًا لمرجعية العقل والعلم محل مرجعية الدين، وبدا وكأن التاريخ بدأ يرسم خطًا يتقدّم فيه الإنسان من الأسوأ إلى الأحسن، بهدف الوصول إلى الفردوس الأرضي.
وآزرته المفوضة السامية لحقوق الانسان في الأمم المتحدة، إذ أعلنت أن إلغاء الحق في الإجهاض “يشكل ضربة موجعة للحقوق الإنسانية للنساء”.
ويقول الكاتب: “إن الموت المقبل، مريع ومخيف، لأنه وباء ومرض من صنع أيدينا ومن صناعة أفكارنا، وليس بسبب خارجي، مما يجعل هذا الموت، أسوأ بكثير من الوباء الأسود الذي قتل ثلث سكان أوروبا في القرن الرابع عشر.”
ويخلص المؤلف إلى وصف المجتمع الغربي: “بأنه مجتمع منحطّ وحضارة تحتضر وتموت، وإن بلدًا مثل هذا، لا يمكن أن يكون حرًا، فلا وجود للحرية دون فضيلة، ولا وجود للفضيلة في غياب الإيمان.”