مفايتح المرور لأقفال المتاهة

د. علي منير حرب

كندا في 05/05/2022

خاص مجلة “الغرفة ١٩”، عدد حزيران / يونيو ٢٠٢٢، لمناسبة تكريم الأديبة والناقدة اللبنانية الدكتورة يمنى العيد.

(قراءة مفتاحية للسيرة الروائية II “زمن المتاهة” *، للكاتبة والناقدة الدكتورة يمنى العيد.)

…وماذا إن دخلتَ زمنَ المتاهة!؟…

أكاد أقول إنها “متاهات الزمن” العنكبوتية المعقّدة، التي حجبت دهاليزها المتشعّبة والمدلهمّة، كل المنافذ إلى بوابات الخروج.

وأدركتُ، إذ أضنتني لعبةُ الحواجز والعوائق المتعاقبة، أن الناقدة الأديبة يمنى العيد، أخذتنا في مغامرة محفوفة بالثورة والتحدّيات والمواجهات، حوّلت معها “سيرتها الروائية في جزئها الثاني”، من “زمن المتاهة” إلى “متاهات الزمن”، الزمن المشحون بالتمرّد والعنفوان، بالهزائم والانتصارات، بالفرح والهلع، الذي طوّق حياة يمنى في بيروت، وما شهدته بيوتها وشوارعها ومقاهيها وأروقة جامعتها الوطنية من مخاضات تحوّل، وزلازل عنف واغتيالات.

على مساحة مسفوحة ما بين “الأرق” و”المتاهة”، تتمدّد فصول الحكاية، حكاية المدن والأمكنة، حكاية مجتمع استمرأ الاستغراق في جاهليته وتخلّفه فتشرذم وانقسم على ذاته والآخر، وتمادى في النسيان، وسقط في أتون حرب أهلية ضروس صار “فيها بعضنا أعداء بعض، وسقطنا في جبّ الاقتتال الطائفي والمذهبي، وصرنا نتذابح ونفجّر بيوتنا فوق رؤوسنا.” ص: ١١، وحكاية غزو صهيوني عاتٍ، ودمار واغتيالات وآلام، تسردها الكاتبة على لسان يمنى، التي “صارتها باختيارها”، وعلى لسانها وألسنتا جميعًا بالصيغ كافة، بعد أن أسدلت الستار على شخصية حكمت، التي رفضت أن تسكنها وتتقزّم تحت عباءتها، فاستولدت، من رحم الرفض، وجهَ اليمن والخير والبركة، وجهَ يمنى، مع ما حمل لها معه من ضريبة نضال عبر معارك متواصلة لاحقتها من صيدا إلى بيروت إلى باريس، ذاقت فيها من المعاناة والمواجهات بقدر ما حصدت من الإنجاز والتفوّق والتكريم. 

إنها وكما تتبدى لي، حكاية الأسئلة الجارحة، التي أقلقت الكاتبة مع اطلالات فجر وعيها وإدراكها: من أنا؟ ومن أكون؟ وإلى أين؟ وكيف؟

ألم يكن الإنسان كائنًا سائلًا وهو يباشر رحلة عمره بين طيّات الزمن؟ ألم يكن السؤال الذي تحشرج في حناياه الشرارةَ الأولى التي أوقدت شعلة معارفه وانخراطه في رحلة شاقة مسوّرة بالأسرار والأحاجي العصية على الإدراك والفهم؟ ألم يكن السؤال المفتاح لمغاليق الحياة هو نفسه المقبض الذي أدرناه بأنفسنا لنشرّع غرفنا الداخلية أمام كل الرياح العاتية؟

ومع هذا فإن حكمت لم تكفّ عن السؤال، بل تلحّ وتمعن: وماذا لو توقفت عن طرح الأسئلة؟ ألا أتحوّل إلى دودة تتآكل داخل شرنقتها، وتتيبّس ملتصقة بتلك القشرة الغائبة والمغيّبة عن النور والهواء، “حين كانت تفكّر بأن عمرها يمضي وحياتها المستقرّة قد تأسن مع هذا التوالي لهذه الأجيال الشابة وهي مستقرّة في مكانها وعملها حتى لكأنها تمشي إلى الوراء.” ص: ٢٠.

أجل، إن كل ما صنعته بيديها ولحمها ودمها، وما قامت به من إعادة صياغة ذاتها وتشكيلها على مقاس طموحها وأحلامها ورؤاها، كان وليد هذه الأسئلة، واستجابة حيّة شجاعة لسؤال طاف مبكّرًا في رحاب عقلها السليم، فتململ وتمرّد وأقدم كي يخترق جدران الزنزانة المظلمة، على الرغم من كل ما أورثها من ضنى وأحزان.

يخيّل إليّ، فيما أنا أتقلّب بين دهاليز المتاهة، باحثًا عن مفتاح عبقريتها، على طريقة شيخنا العقّاد، (إشارة إلى سلسة عبقريات عباس محمود العقّاد)، وهو يصهر ويفكّك معدن الكبار منقّبًا عن الجوهر الكامن في عظمتهم ونجاحاتهم، أنني كنت كمن يقفز بين رؤوس الألغام، أو يتسلق هضابًا وعرة ثم ينزلق على مساقط الوديان، قبل أن يستقرّ على طبقة من الرمال المتحركة عبرت عليها ريح هوجاء وحملت معها كل خطوط الخرائط والرسومات.

عن أي مفتاح كنت أبحث يا ترى؟ ووراء أي عبقرية كنت ألهث وأفتّش؟

هل هي متاهة الأنثى التي انتفضت ضد الخضوع لدونيّتها في مجتمع أبوي ذكوري قاصر، لا يتعامل مع الإنسان إلا من خلال معاييره الجسدية؟

أم هي متاهة البحث عن الذات والهوية والانتماء؟ “الهوية التي أعطيت لي والهوية التي اخترتها لذاتي.” ص: ٦٩.

أم هي متاهة العلم والمعرفة؟

أم متاهة الثقافة؟ أم متاهة النظام السياسي الفاسد والمفسد للحياة والقيم؟

أم هي متاهة المدن والأمكنة التي تلبّست أرواحنا، واستيقظنا ذات يوم لنجدها متهاوية محروقة، وتركتنا في ضياع وشتات؟

أم هي دوّامة الاغتيالات المتعطشة لدماء النورانيين المفكّرين الذين تنكّبوا عبء مطاردة الغيوم الحاجبة لأنوار عقولهم، فطالتهم سكاكين الطغاة والمستبدّين، وأسكتهم رصاصهم الصامت في الليالي السود؟

Read more