بعد ٧٧ سنة من الاستقلال
وطن يبحث عن هوية وشعب يبحث عن وطن

د. علي حرب

22/11/2020

بين الموءود والمصلوب والمزعوم والمرحوم تأرجح معنى الاستقلال ما بيننا.

كنّا ثلة من أصدقاء الاغتراب نحاول أن نتماهى مع الذكرى ٧٧ لاستقلال وطننا الحبيب لبنان.

مع هذا الكمّ الهائل من الحزن المعتّق في خوابي القلب كنّا نتشرّب ذكرى استقلال الوطن.

لا فرح ولا فخر ولا اعتزاز بقي عندنا لنقدّمه لهذا العجوز القادم إلينا من بين أشواك الغابات الوحشية.

اكتشفنا ما هو أعمق من جرحنا وأوجع من أحزاننا، اكتشفنا أننا، وبعد ٧٧ سنة من الإعلان الذي من المفترض أن يكون ناضجًا ومزهرًا ومجيدًا، ما زلنا بحاجة إلى سبعة وسبعين قرنًا لنبلغ المأوى الوطني الذي تاه عنّا أو ضيّعنا نحن الدروب إليه.

اكتشفنا أننا كنّا مجموعة من القبائل المتوحّشة هبطت في أرض سائبة سقطت هي الأخرى من دفاتر الزمان وفقدت هويتها وروحها وسمات وجهها وقسمات جسدها المنخور بالرماح والسكاكين.

اكتشفنا أن وطننا تائه مرهون للقدر وتقلّبات أحوال الدنيا كلّها.

اكتشفنا أن وطننا مكتوم القيد لا نسب له ولا هوية، وأنه لم يزل يفتّش عن ماهيته، ولهذا فإن استقلاله كان مزعومًا أو مصلوبًا أو موءودًا أو مرحومًا.

من مسلّمات الأمور أن العزم على الاستقلال إنما يعني قبل كل شيء الوعي والسعي لتأكيد الذات المستقلة بهويتها وتاريخها وجغرافيتها وقرارها ومستقبلها.

لبنان، وبعد ٧٧سنة من العزم على الاستقلال، لا يزال بلا هوية تحدّد طبيعة كيانه ووجوده وانتمائه. في كل حقبة من تاريخه تلبّس هوية غريبة عنه، وتوزعت هوياته عبر تاريخ استقلاله.

منذ عام ١٩٤٣وحتى العام ١٩٩٠ بقي لبنان ضائعًا شاردًا  إلى أن تمّ الاتفاق في ما بين قبائله المتقاتلة على أنه عربي الهوية والانتماء.

ومضت العروبة تنازع ما تبقى من هويات وانتماءات أخرى إلى أن انحسرت وضاقت أنفاسها بين سورية وإيرانية وسعودية وأميركية وفرنسية وتركية.

عند حدود كل مدينة من مدنه، وعلى مداخل كل قرية من قراه، وربما كل حيّ من أحيائه، هناك هوية خاصة، بناسها وراياتها وثقافتها ومنحوتات زعمائها وأصحابها، ولا نبالغ إذا قلنا برؤيتها وقناعتها الذاتية للوطن والأرض ومستقبل الكيان، وكلّها تشكل جزرًا منفصلة وجدران فصل وعزلة، واستقلالًا ذاتيًا خاصًا بها.

ولبنان بلا تاريخ وطني محدّد وحاسم وموحّد حتى الآن. لكل قبيلة تاريخها المعتمد، هي التي تحدّد بدايته وأحداثه ووقائعه وشخصياته، وكل من هذه التاريخيات المتناقضة حتى العظم يخفي بين صفحاته فتيلًا تفجيريًا يهدّد الكيان والهوية في كل لحظة وعند كل مفترق.

ولأنه بلا هوية ولا تاريخ، فهو أيضًا بلا تربية مدنية ووطنية سائدة ومقرّرة ومتفق عليها بإجماع فئاته. فما تراه إحدى قبائله ناجعًا ترى الأخرى نقيضه، وما ينادي به ذلك الفريق يعتبر خيانة وطنية عظمى عند فريق آخر.

ولبنان بلا جغرافيا تحصّنه وتسوّره وتضمن حدوده وأملاكه وحقوقه وتحميها من الجوار الشقيق والعدو.

فلا خطوط حدودية واضحة، لا في البر ولا في البحر. كل جهات الوطن وخاصراته مشلّعة سائبة فالتة، وكل معابره مغتصبة وساقطة في قبضة اللادولة. 

ولأن لبنان بلا هوية ولا تاريخ ولا جغرافيا ولا ولاء وطني وتربية مدنية سليمة، فإنه فاقد القدرة على رؤية حاضره وفاقد الإرادة لتقرير مصيره واختيار الريح التي سيوجه بها أشرعته، بل قل عاجز عن رسم برامجه وخططه التنموية والاستراتيجية  للمستقبل.

لبنان، وبعد سبعة وسبعين عامًا على خرافة استقلاله، لا يملك حفنة ولو بسيطة لإرادة وطنية حرة تتيح له اتخاذ قرار واحد، واحد على الأقل، يحدّد فيه طريقه نحو مصيره ومستقبله القريب والبعيد. أو تمنحه حق اختيار الموضع الذي يضع فيه قدميه للسير في الاتجاه الذي يحمي وجوده وكينونته وحقوقه السياسية  والوطنية وثرواته الطبيعيةً، لا في التعاطي مع رياح الخارج وعواصفه فحسب، ولكن في أبسط استحقاقاته الداخلية الخاصة التي من شأنها انتظام شؤونه الإدارية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية …..

وحال شعب لبنان، ليست أبدًا بأفضل من حال الوطن المنكوب والمكتوم والمسلوب الأهلية والجدارة،

وكيف يمكن لشعب أن تختلف حياته عن خراب بيته وموئله وبيئته؟

قبل سبعة وسبعين عامًا بكثير، وبعد أكثر بكثير من سبعة وسبعين عامًا، سوف يبقى شعب لبنان، ضائعًا تائهًا هو الآخر، يفتش عن وطن سلّمه بمحض إرادته، وطمعًا في تحقيق الوجود والحقوق والمكاسب والمناصب، إلى عصابات حزبية وطائفية ومناطقية، واستطاب طعم العصا والانقياد، ليجد  نفسه صريع حروب داخلية لا تنتهي، أو ضحية معارك لا ناقة له فيها ولا جمل، سوى تنفيذ إرادة الراعي ومصالحه وزعامته، أو بعض أوراق ومستندات ووثائق يقف بها بحسرة وانكسار على عتبات سفارات تقبله أعدادًا مضافة لتحقيق خططها بملء الشواغر السكانية في أراضيها الفارغة والاستثمار فيهم بكل اتجاه.

ومن لم يخضع من هذا الشعب لأي من العوامل السابقة كان مصيره الموت المحتم بكوارث انفجارات مشبوهة أو رصاص طائش، أو وجد نفسه مرميًا على أبواب المستشفيات أو منتحرًا جوعًا وقهرًا أو مجنونًا قاذفًا بنفسه وبأولاده في أشداق التماسيح.

شعب لبنان يبحث عن وطن أو ملجأ يأويه ويوفّر له اطمئنانه من شريك يفترسه على حين غرّة، ويؤمّن له كرامة إنسان في ظلّ تاريخ واحد موحّد، وقضاء عادل ومؤسسات نزيهة، وتربية وتنشئة وطنية صافية، وطبابة شريفة ومستقبل آمن لأبنائه، أينما كان هذا الوطن على وجه هذه الأرض، وكيفما كان شكله ولغته ودينه.

رحماك يا وطن الأحلام!

رحماك يا وطن الآمال!

لا نملك من نعمائك إلا اسمًا وضعوه على وثيقة تهجير نغادر بها إلى من يزرعنا في حقوله.