أسئلة على ألسنة البسطاء في السياسة والشرفاء في حبّ الوطن (٢)

د. علي حرب –

14/10/2020

الترسيم على كل الحدود قبل الموت بلا حدود

 

من وحي مسألة ترسيم الحدود البحرية التي انطلق قطارها اليوم الأربعاء في 14 تشرين الأول 2020، بين لبنان والكيان الاسرائيلي المحتلّ، بإشراف الأمم المتحدة ورعاية واشنطن، بعد تعثّر دام سنوات طويلة، ومن مبدأ “التمسّك بالحقوق اللبنانية المعترف بها دوليًا، وبهدف التوصّل إلى حل منصف يحمي الحقوق السيادية للشعب اللبناني”، كما أكد عليه الرئيس ميشال عون.

 

ومن غير الدخول في ما أحاط بدفع مسألة الترسيم إلى غرفة الولادة، والتي أشبعها المحلّلون السياسيون والقانونيون تشريحًا وتنقيبًا عن دوافعها وخلفيّاتها وتقاطعاتها مع خطوات التطبيع التي أقدمت عليها بعض الدول العربية مؤخّرًا، ومع قرارات العقوبات التي نفّذتها الإدارة الأميركية ضدّ بعض الوزراء والأشخاص والجهات والشركات اللبنانية والإيرانية والسورية، في سياق “قانون قيصر” أو من خارجه.

 

ومن وحي ما أحاط بتشكيل الوفد المكلّف بالتفاوض بهذه المسألة أيضًا من اتهامات بمخالفة الدستور وخرقه، أو رفض تشكيلة الوفد اللبناني المفاوض، والتي صدرت تباعًا من قبل رئاسة الحكومة أولًا، ومن قيادتي “حزب الله” وأمل ثانيًا، وما استتبع ذلك من ردود من المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية.

 

من وحي أجواء الترسيم هذه، ترتسم (تيّمنًا بهذا المعجم)، مجموعة من الأسئلة التي قد تبدأ بالضرورات الملحّة لترسيم الحدود السيادية لوطن ذي “سيادة تامّة”؟! بجغرافيته البرية والبحرية “المعترف بها دوليًا”، وتمرّ بترسيم الحدود الانتمائية بتاريخه كوطن واحد “أرضًا وشعبًا ومؤسسات”؟! لتنتهي في الحقوق الدستورية والقانونية التي يجب إعادة ترسيمها في مسائل السلطات والمؤسسات والحريات والأحزاب والجمعيات والمدنيّات، لتكوين الدولة “الديموقراطية البرلمانية التي يكون فيها الشعب مصدرًا للسلطات وصاحب السيادة في مؤسساتها”.

  • لماذا تقلّصت مفاوضات الترسيم لتقتصر على الحدود البحرية فقط – مع أهميتها القصوى في ما يتعلق بمياهنا الاقليمية المتنازع عليها في آبار النفط والغاز، وفي حقوقنا المقدّسة بمواردنا الطبيعية- والتي تشكّل مادة أساسية من مواد ترسيم الحدود بين للدول؟

وهل جاء ذلك تمهيدًا لوضع يد القوى المهيمنة على هذه الثروات الموعودة للبنان وشعبه، واستباقًا لأي تغييرات جيوسياسية قد تطرأ تحت تأثير الضغوطات الكبيرة والشروط القاسية التي يتعرّض لها أهل الحكم لعجزهم أو لهلعهم من القيام بالحد الأدنى من الإصلاحات المطلوبة على كل الصعد، من أجل وقف الانهيار الشامل؟ أم بانتظار التطبيعات المتوقعة بين واشنطن من جهة وإيران، التي تحكم العواصم العربية الأربع ومن بينها بيروت، من جهة أخرى؟

  • لماذا تقدّمت قضية ترسيم الحدود البحرية ولم تتواز مع شقيقتها البرية؟ هل لأن ترسيم الأولى يعتبر سياديًا، والآخر يعتبر وجهة نظر، سواء في حماية حدود الكيان المحتلّ بموجب القرار 1701 وغيره من قرارات الأمم المتحدة، أو في ثلاث عشرة نقطة حدودية اخترق فيها الخط الأزرق الحدود اللبنانية لمصلحة إسرائيل؟ أو بالعُقد المتحكمة بهوية مزارع شبعا وبسائر المعابر البرية، غير الشرعيّة، والمشرّعة أمام عيون الدولة وعماها، جنوبًا وشرقًا وشمالًا، لتهريب السلع والبشر والسلاح والمقاتلين، كرمى لعيون الجار الشقيق؟
  • لماذا يتوانى القائمون على الحكم، والقاعدون على كراسي السلطة، عن فتح ملفات ترسيم الحدود بين السلطات المكوّنة للدولة؟ وهل يرى الحاكمون بأمرهم أن السلطات في لبنان تعيش حالة دستورية صحية سليمة ولا يتمّ خرقها في جميع القرارات والمواقف والسلوكيات؟ وأن “النظام قائم على مبدأ الفصل بین السلطات وتوازنها وتعاونها”؟

فلماذا إذن ومن قام بخلق سنوات الفراغ في الرئاسات والحكومات والإدارات العامة؟

لماذا ومن هيمن على السلطة القضائية وسمح للسلطات السياسية أن تخرس فم القضاء وتشلّ يده؟

لماذا ومن أخفى قوانين التشكيلات القضائية في الأدراج؟

لماذا ومن عطّل تنفيذ القوانين التي تعفّنت من تراكمها وتخزينها في أدراج المجالس والجرائد الرسمية؟

لماذا ومن سمح بخرق حدود السيادة الدستورية وتغافل وتآمر على نصوصها الحاسمة بأن “لبنان وطن سید حر مستقل”، وبأن لبنان “واحد أرضًا وشعبًا ومؤسسات”، وبأن “لبنان عربي الهویة والانتماء”، وبأن “الدولة تجسّد هذه المبادئ في جمیع الحقوق والمجالات دون استثناء.” وبأن “النظام الاقتصادي حر یكفل المبادرة الفردیة والملكیة الخاصة”؟

هذا غيض من فيض من الحدود المخترقة والمستباحة وغير المرسّمة، للشعارات المرصوصة في مقدّمة دستورنا اللبناني، الذي تشلّع بين أيدي حكّامنا. فهل من يصدّق اليوم كلمة واحدة مما ندّعي التمسّك به وتطبيقه واحترامه؟ وأين الحرية وأين السيادة وأين الاستقلالية وأين الشعب الواحد؟ فيما الوطن يعاني منذ عشرات السنين من فلتان هائل في ممارسة الصلاحيات، وفساد شامل في الإدارات والمؤسسات، وجيوش متراصّة من الموظفين الرسميين والمستشارين الأبناء والأصهرة والزوجات المحشورين في القصور وفي الداوئر والملتهمين لميزانيات الدولة، ومن الزعماء الكرام الذين كرّسوا سلطانهم الالهي الواحد للقبض على رأس السلطات والاستيلاء على وزارات الدولة وتسجيلها بأسماء طوائفهم حصرًا واحتكارًا، أو ممن حوّلوا وزاراتهم إلى كازينوهات لتخزين الثروات والزلازل الموقوتة في المرافئ والمطار والقرى، لتمويل حملاتهم الانتخابية وجمع الأنصار في الداخل والمغتربات، وتهريب المشبوهين إلى مراكز ديبلوماسية محمية، وعقد صفقات تهريب العملاء لتحقيق المصالح والمكاسب، وتركيب الأفلام السينمائية الموسوعية من تمثيل أبطال الجمهورية الذين يتبادلون الأدوار في اتهامات الاختلاس والنصب وارتكاب الفواحش في تطيير الموظفين وتعيين المحسوبين وسرقة الموازنات.

  • لماذا لم يقدم أيّ من الوطنيين الغيورين على كيان لبنان ومستقبله، بترسيم حدود وطنية قاطعة لتأسيس الأحزاب السياسية والجمعيات لتكون لبنانية الانتماء والأهداف والغايات، مدنيّة غير طائفية ولا تتبع أو تموّل أو تسلّح من أي طرف خارجي؟
  • لماذا لم يتنطح واحد من الذين يحتلون الشاشات إلى ترسيم قانون عصري عادل وجريء لإعلام وطني لبناني حرّ غير مأجور ولا مرهون؟

في خضمّ هذه الفظائع التي يرتكبها المسؤولون في لبنان، ومن خلف القراءات المتعدّدة لما يجري، فمن المؤكد أننا ذاهبون، ما بعد مباشرة المفاوضات الرسمية للترسيم في الثامن والعشرين من هذا الشهر، وبفضل كهنة الوصاية والرعاية وأزلام الارتهان، إلى أيام أسوأ مما نعيشها الآن في جهنّم الحكم، نتجرّع فيها الكؤوس المرّة في التطبيع المرتقب، ليس بين لبنان والكيان المحتلّ فحسب، بل بين أميركا وإيران والعراق واليمن وسوريا، وتكون جوائزه الثمينة تعويمًا لكل هذه الطبقة الحاكمة المرتهنة، وتثبيت قبضتها على مفاصل الدولة، ودفع الشعب إلى الانتحار قسرًا، إما بالموت جوعًا وقهرًا، وإما برمي نفسه في مراكب التهجير بين أشداق تماسيح البحر هربًا من قروش الوطن.