أنا ابن عون ووهّاب المنايا!...

أنا ابن عون ووهّاب المنايا…

د. علي منير حرب

نيسان 2022

في أحدث ظهوراته العجائبية أمام اللبنانيين، والتي أدمنها منذ إطلالاته من على الشرفات في الثمانينيات من القرن الماضي، والتي كانت تنذر بخطورة الورم الأنوي المتأصّل عنده، ختم “الجنرال رئيس الجمهورية ميشال عون” خطاب الإفك، فكرّر ما يفرزه تضخّمه الشخصاني، ليذكّر المواطنين باسمه ورتبته وموقعه، ويستجديهم العطف والمؤازرة في معركته التحويرية من أجل التدقيق الجنائي، داعيًا إياهم ألّا “يكونوا معه إنما مع أنفسهم من أجل مستقبل أولادهم وكشف الحقائق واسترجاع الحقوق.”

رحم الله “سحيمًا”، صاحب القصيدة الملهمة التي استنجد بها عون ليرفع من فخاره بذاته، بعد أن استشعر خزيًا وكرهًا ونقمة من الناس.

لا يفوت المتابع لسيرة “الجنرال الرئيس” أن يتلمّس بوضوح عادة الهروب المصاحبة لمسيرة حياته كلّما داهمه الفشل وحاصرته الهزائم.

بعدما أحسّ أن كل ألاعيبه البهلوانية في تعطيل الحكم والحكومة، باتت مكشوفة أمام المجتمعات المحلية والإقليمية والدولية.

وبعدما وجد نفسه سجينًا داخل قصره ومعزولًا عن العالم كله نتيجة إمعانه، ومن حوله، في اجتراح أكاذيب التعطيل ووقف محرّكات الدولة.

وبعدما أدماه لحس المبرد من حكومته المشلولة، وأغلقت فرنسا أبواب الإليزيه في وجه التلميذ “الشاطر ابن استاذه”، وهدّده الاتحاد الأوروبي بعقوبات قاسية تطاله والمعطّلين، وأهمل وزيرُ خارجية مصر وليَّ عهده الأمين، وواجهه وزير الخارجية السويسري برسالة واضحة لخريطة الطريق، وصفعه قداسة البابا بتحديد موعد قريب للقاء الرئيس المكلّف سعد الحريري، وحسمت له جامعة الدول العربية موقفها في التزام الطائف وفي تأييد وجهة نظر البطريرك الراعي في موضوع الحياد، ونازله الرئيس نبيه بري بمبادرات متلاحقة للتسوية.

أمام هذا المأزق الخانق، وعلى عادته الغزالية، لم يجد، هو ومن يلعبون معه خلف الكواليس، سبيلًا إلّا الهروب. فتناسى كل الكوارث الداهمة، وتمخّض جبله ليلد فأر التدقيق الجنائي، موجّهًا التهم إلى أهل السياسة والمصرف المركزي وأصحاب المصارف والدول الراعية لمساعدة لبنان، ومدّعيًا أن إغفال هذه المسألة هو الذي يعطّل المبادرة الفرنسية.

تجاوز كل القضايا والمصائب، وقفز فوق كل الدماء والجراح، وهرول هاربًا من ساحات الوغى التي أشعلها لمكافحة الفساد والقضاء على منظومته الفولاذية، وتعامى عن ثلاثين ملفًا للفساد غافية في أدراج القضاء، وعلى رأسها ملفات الطاقة والكهرباء والسدود المرتبطة برقبة صهره وأتباعه، وسلّط أضواءه على أمر واحد فقط، في محاولة التفاف مكشوفة على جوهر المأساة اللبنانية المتمثلة في مسلسل تعطيل مؤسسات الدولة الذي طغى على معظم سنوات عهده.

إنها حنكة الهروب وليست حنكة الحكم والمسؤولية، لا سيما وأن العالم، وليس اللبنانيون فقط، باتوا يعرفون ويدركون تمامًا، أنه هو نفسه وآل بيته وبناته، متورّطون حتى النخاع مع منظومة الفساد والنهب التي يتّهمها ويشنّ حرب الهروب عليها، متبرّئًا من دم الجريمة التي ارتكبها بيديه عندما عرض بنفسه موضوع التجديد لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة في أيار ٢٠١٧ ، من خارج جدول أعمال مجلس الوزراء، حيث تمّ التجديد له لمدة ست سنوات، تقديرًا ومكافأة على دوره في الصفقة التي أتمها لصالح بنك سيدروس العائد لأسرته وأعضاء تيّاره والتي كشفتها “لو فيعارو” الفرنسية.

أيها الجنرال الرئيس، هروبك لن يؤمن لك منفى فرنسيًا آمنًا هذه المرة، لأن المنظومة التي  انضممت إليها، والتحالفات التي لهثت لعقدها معها برجليك ويديك، طمعًا بركوب الكرسي، لن تتركك تستخدمها لحمًا وترميها عظمًا، ولن تنام عن نقيصات غدرك وطعناتك، فهي لك بالمرصاد، وها سياطها وألسنتها انبرت للردّ على تخرّصاتك وفضح ارتكاباتك في مختلف الأوساط السياسية والمصرفية والقضائية، ونحيل كاتبي أفكارك إلى بيانات جمعية المصارف، وفورين بوليسي، وتصريحات النواب من أقرب الحلفاء لحليفك، وشروحات عرّاب الطائف الرئيس حسين الحسيني، التي كشفت هراء ادعاءاتك بالصلاحيات والحقوق.

أيها الجنرال الرئيس، استماتتك في معركة “الهندسة الرئاسية” للتمديد أو التوريث فشلت كما سائر حروبك، ولن تجد حاكمًا مثيلًا يحيك لك “هندسة مالية” كصفقة سيدروس.

أيها الجنرال الرئيس، كفاك حروبًا عبثية، وكفى شعبك وكفى وطنك ظلمًا وقهرًا ومعاناة.

أيها الجنرال الأوحد المتفرّد في فجائع عهده.

استقم للدستور المؤتمن عليه بطائفه، وأفرج عن حكومة مهمة وإنقاذ، أنت بأمسّ الحاجة إليها في معركتك للتدقيق الجنائي، ولكي تنشل ما تبقّى من عمر عهدك القصير.

أيها الجنرال الرئيس، إذا تذكّرت أن تقول:

أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا”، وقد عرفك شعبك من غير أن تضع العمامة.

فقد نسيت أن تقول أيضًا:

“وفي الهيجاء ما جرّبت نفسي         ولكن في الهزيمة كالغزال

وتلك مزيّة الشجعان مثلي              يفرّ عدوّهم قبل النزال.”

لبّيك أيها الجنرال الرئيس، شعبك يستجيب لندائك مرة أخرى، ولن يكون معك إنما مع نفسه.

لأنه عرفك وكشف عيوب الصدأ في معدنك، فلن يكون معك.

ولأنه تذوّق الموت الزؤام بين يديك، فلن يكون معك.

ولأنه ضنين بوطنه وكريم عيشه، فلن يكون معك.

لبّيك أيها الجنرال الرئيس العنيد، اطمئن، فلن تجد عند شعبك العظيم “حليب النياق” بعد اليوم، فطالما “ضيّعت اللبن” الذي أغدقه عليك طوال صيّفيات بعيدة!…