علاقة أدباء المهجر بدور النشر العربية
ندوة من تنظيم:
مركز التقاء الثقافات في الاتحاد العالمي للمثقفين العرب – برئاسة الدكتورة مليكة أكجيل
محور المداخلة: علاقة أدباء المهجر بدور النشر العربية
إعداد: د. علي منير حرب
السبت في ١٨/٠٦/٢٠٢٢
أحييكم جميعًا، محاضرين وضيوفًا، وأحيي مركز التقاء الثقافات في الاتحاد العالمي للمثقفين العرب، برئاسة الصديقة الدكتورة مليكة أكجيل، وأشكرها على تنظيم هذه الندوة، وطرح هذه القضية الهامّة والأساسية في شؤون الثقافة.
ما دام موضوع الندوة اليوم مختصّا بدور النشر ودورها في التعريف بالثقافة العربية، اسمحوا لي أن استهلّ مداخلتي من هذا الجانب، تمهيدًا للدخول في واقع العلاقة بين أدباء المهجر ودور النشر العربية.
بسم الله الرحمن الرحيم
“اقرأ باسم ربّك الذي خلق”.
إنها أول آية في أولّ سور الكتاب المجيد، القرآن الكريم.
والقرآن لغةً من القراءة. ومنه التنزيل العزيز في سورة القيامة: “فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه”.
وتوالت بعدها أوامر القراءة والتعلّم ومصطلحات الكتاب، وهي ركائز المعرفة الإنسانية لله سبحانه، وللكون والحياة والتاريخ.
ذكر العلماء أن هذه الآيات تدل دلالة ثابتة وواضحة على فضل العلم والتعلّم لأنها تضمنت أمرًا مكررًا بالقراءة وامتنّ الله فيها على الإنسان بالقلم وبالكتاب وبالعلم.
استلهم من هذا كله أن الثقافة تقوم على القاعدة الثلاثية التاريخية: القراءة والعلم والكتاب.
فلا معرفة بلا قراءة، ولا قراءة بلا علم، ولا علم بلا كتاب.
فالكتاب هو الذي يحمل المعرفة ويعبر بها الآفاق. هو خزانة التاريخ والحضارات. هو جسر عبور الفكر من الذات إلى الآخر، ومنصّة الحوار والتواصل بينهما، ومولّد أنوار الوعي واليقظة لدى الأجيال.
وكما الجنين يتخلّق ويكتسي في الرَحِم لحمًا وعظامًا، كذلك هي الكلمة، لا تحيا ولا تعمّر إلّا في دفء رَحِمِ الكتاب، سواء كان صخرًا أو طينًا أو بَرديًا أو ألياف أشجار.
الكتاب هو دم الإنسان وفكره المسفوحان على الورق. هو المسجّل لأحداثنا وآدابنا وعلومنا وحكمتنا وتجاربنا، وهو الحافظ الأمين لرحلة الإنسانية في بناء ثقافتها وحضارتها.
في أحضان الورق المصفّر ترتعش أرواح المفكرين والعلماء والأدباء، وعلى وسادة هذا الورق يرقد التاريخ.
أنْ تصنع كتابًا يعني أن تحفظ نتاج الفكر الإنساني في متحف الزمن الممتد بين أمسٍ وغد.
وأكاد أقول إن لهفة الكاتب لرؤية أفكاره مطبوعة على الورق توازي لهفة الأم لاحتضان وليدها بعد كل آلام المخاض.
والكاتب، حين يكتب، فإنما يسكب نفسه خارج وعاء ذاته ليقدّمها للقارئ، وإلا فكم هو قصير عمرُ الكلمة بلا كاتب؟ وما قيمة الكاتب إذا لم يُقرأ ولم ينتشر فكره؟
تأسيسًا على هذه الثوابت الملتحمة بحياة البشرية، والمتمَثَلة في توثيق الكلمة وكتابتها وطباعتها ونشرها، أودّ أن أتحدث عن الآمال الكبيرة المعقودة على دور النشر، وعن واقع العَلاقة التي تربطها بأدباء المهجر العرب المنتشرين في بلاد الاغتراب.
كما أهدف إلى تبيان المسؤولية الثقافية، الوطنية والتنموية والأخلاقية، الملقاة على عاتق هذه الجهات، والتي لا تقلّ برأيي جسامة، عن مسؤولية الكاتب نفسه، كما عن سائر المؤسسات الثقافية، الرسمية والاجتماعية، بوصفها شريكة مؤتمنة وناقلة لهذا المكوّن الأساسي من مكوّنات هُوية الأمة وحضارتها. واعتبر أن أية مبادرة لتأسيس دار نشر عليها أن تنطلق كرسالة سامية شريفة، لأن صناعة الكتاب لا تقلّ أهمية وخطرًا عن صناعة الخبز والدواء.
وإذا كان الكتّاب هم أشجار المعرفة، فإن دور النشر هي الرياح العاملة على حمل وتوزيع حبوب اللقاح الثقافي في أرجاء الأرض.
من ثابت القول إن دور النشر تتولى وتؤدي مهمة أساسية في نشر الثقافة العربية لاسيما في بلاد الاغتراب، حيث تلبي احتياجات المؤلف والقارئ العربيين معًا، وبخاصة في العقدين الأخيرين، نظرًا للزحف الكبير من المهاجرين العرب، الذي تشهده دول الانتشار في العالم بسبب وطأة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتردية في معظم البلاد العربية، ومن الواضح أن علاقة الكتّاب العرب بدور النشر في المهجر، لا تختلف بطبيعتها عن أمثالهم في أوطانهم الأم.
وإذا ما كانت تشوب هذه العلاقة تشوّهات كثيرة في أوطاننا، فإنها في بلاد الاغتراب تزيد عليها أعباءً وصعوبات من جوانب عدّة:
أولًا: من حيث توفّر هذه الدور في بلاد المهجر، والذي كما يبدو، يرتبط بظروف تاريخية أحاطت بنشأة علاقة هذه البلاد بالثقافة العربية. ففي حين نجد تأصيلًا وانتشارًا واسعًا للثقافة والمثقفين العرب في معظم البلاد الأوروبية، وتأسيس مراكز وأقسامًا أكاديمية تُعنى بالدراسات الشرقية والإسلامية والعربية في معظم هذه البلاد، فرنسا ألمانيا إيطاليا النمسا السويد بريطانيا وغيرها، وبالتالي وجودِ مؤسسات إعلامية وهيئات للترجمة وطباعة الكتاب العربي والمساهمة في نشر الثقافة العربية، يلفتنا في المقابل تواضع هذه الظاهرة، بل غيابها في كثير من بلاد الاغتراب الأخرى.
ثانيًا: من حيث كفايتها الثقافية والفنية والتقنية اللازمة، وافتقارها لفريق عمل متكامل يتولى مسؤولية المراجعة والتدقيق والإخراج الفني، ومن ثمّ مهمة التوزيع والنشر بشكل ناجح ومضمون.
ثالثًا: من حيث التكاليف المرتفعة في الطباعة أو في الشحن عند اعتماد جهة خارجية.
وتبقى علاقة الكاتب العربي بعامة والمغترب بخاصة، بدور النشر، المحلية أو المنتشرة في الأوطان الأم، مشوبة بالالتباس والأزمات.
فالطرفان يشكوان ويتذمّران.
تنصّب شكوى الكتّاب بشكل واضح على بعض هذه الدور لعدم التزامها بالشفافية والأمانة في التعامل، عبر كل مراحل صناعة الكتاب، طباعة وتوزيعًا ونشرًا، والمتمثّل في حجم المبيعات وعدد الطبعات، والحقوق والملكيات الفكرية، والمستحقات العائدة لهم، كما يشكون تهافت هذه الدور على الترويج للغث والرديء من النتاج الفكري والأدبي، وبالتشجيع على نشر بعض الكتب العقائدية والسياسية المغرضة والمحرّضة على الانقسامات والخصومات استجابة للمغريات المادية على حساب مبادئ المهنة وأخلاقياتها.
وقد أدهشني حقًا أحد الكتّاب المرموقين عندما صارحني بمعاناته من هذا التعامل فقال: “تثير سخريتي وألمي عبارة تصرّ مؤسسات الطباعة والنشر على دمغها في كتبي. وهي: “جميع الحقوق محفوظة”، وما زلت أتساءل عن هذه الحقوق والجهة المحفوظة عندها، وأنا اتعرّض مع كل كتاب لعمليات اقتناص لحقوقي المادية والفكرية. لاسيما في كميات النسخ المطبوعة، أو في توالي أعداد الطبعات، أو في عوائد المبيعات.”
أما أصحاب دور النشر فإنهم يوجهون شكواهم نحو الظروف السياسية والأمنية والطبيعية التي تعيق أعمالهم وتهدّدها، والدخلاء الذين اقتحموا هذا القطاع دون أي مؤهلات وكفايات مناسبة، إضافة إلى انتشار جرائم القرصنة وسرقة الحقوق وتزوير طباعتها ونشرها بأسماء مستعارة، إلى جانب بعض المشكلات المزمنة، كضعف الاهتمام بالقراءة، وتشديد الرقابة على الكتب، وتفشّي ظاهرة التزوير، والارتفاع المستمر في معدلات الضرائب والرسوم الجمركية والشحن وإيجار المعارض.
وأمام هذا الواقع المتأزم بين الطرفين، يبقى الكاتب هو الحلقة الأضعف في سلسلة صناعة الكتاب، كما يبقى الخاسر الأكبر في استثمار فكره وجهده، والباحث الدائم عن الجهة الصالحة التي تحمي حقوقه وديمومة عطائه للمساهمة في تحقيق حركة النهوض والارتقاء في مجتمعه.
وأختم فأقول إن صناعة الكتاب ونشره تبقى على رأس المنظومة المكلفة بإشاعة أجواء الثقافة في المجتمع، وإن الكاتب مهما علا شأنه وإبداعه لا بدّ له من هذه الرافعة التي تعمل على نقل أفكاره مهما تعاظمت وسائل التقنيات الأخرى وأدواتها.
إن دور النشر في حياتنا الإنسانية، بصناعتها للكتاب الجيد، فإنما تجوّد عمل الكتّاب أنفسهم، وتعدّ قارئًا جيدًا، وتساهم في بناء مجتمع جيّد.
دعوتي وندائي إلى مؤسسات دور النشر أوجّهها باعتبارها عضوًا أساسيًا في جسم الثقافة العربية، أن تحافظ على خطّها التاريخي الناصع بأن يتولى شؤونها شخصيات وكفايات مثقفة، يتعهدونها بأمانة وإخلاص.
أعلم أن هذه المؤسسات ليست جمعيات خيرية ومن حق أصحابها تحقيق الأرباح في عملهم واستثماراتهم، لكن عليها أن تحافظ على موقعها كمؤسسات تستثمر بالثقافة ولا تتاجر بأفكار الكتّاب وعقول القرّاء.
وأوجه دعوتي أيضًا إلى المؤسسات الثقافية الرسمية، ومنظمي الجوائز الوطنية والعالمية للآداب والعلوم والفنون، من أجل دعم دور النشر وتشجيعها ورعايتها، وإزالة العوائق التي تتعرّض لها، وتخصيص جوائز سنوية للمتميّز منها أسوة بالمؤلفين والفنانين، حتى تبقى قادرة على مواصلة دورها الرائد، وتيسيرًا لانتشار الكتاب العربي وتحقيق أغراضه في تفعيل المعرفة والتنمية وجودة الحياة.
شكرًا لاستماعكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.