واقعنا ولغتنا في زمن الفضاء المفتوح
مزايا ورزايا
ندوة “ملتقى الحرف العربي”
من تنظيم الشاعرة فايزة سعيد
وإدارة الدكتورة الأديبة درّية فرحات – لبنان
بعنوان: “واقعنا ولغتنا في زمن الفضاء المفتوح إلى أين…مزايا ورزايا”
الخميس في ١٦/١٢/٢٠٢١ الساعة الثانية عشرة ظهرًا بتوقيت كندا – السابعة بتوقيت بيروت
د. علي حرب
تتضمّن الندوة ثلاثة محاور:
اللغة العربية والثقافة العربية إلى أين؟
اللغة العربية: أين يكمن الداء وكيف يكون الدواء في عصر العالم الافتراضي الذي لا بداية له ولا نهاية؟
ما الذي ينتظر العالم بعد سنة ٢٠٢٢؟ وهل نحن على أبواب تحوّلات جديدة؟
———————————
المحور الأول: اللغة العربية والثقافة العربية إلى أين؟
سأحاول في هذا المحور أن أعرض صورة اللغة والثقافة العربية بوجهيهما المشرق والخافت، بما كانتا عليه وما آلتا إليه.
حنان شبيب.. مشاركة مني في أمسيتكم المباركة
أولًا: في موضوع اللغة العربية:
أختار من خزائن الشاعرة الأديبة حنان شبيب بعضًا من لآلئ ما أهدتنا لهذا اللقاء:
“هلمّ هلمّ يا قومي سرايا
أنا الأنغام تسري في دمايا
ومن غيري يقيمُ عروشَ مجدٍ
أنا اللغة التي فاضت سمايا
تجلّى وجهيَ القدسيُ شعرًا
وواكبتُ الحضارةَ والقضايا
أنا أمّ البلاغةِ يا لَمجدٍ
ويا لَجمالِ ما وهبتْ يدايا”
وتغنى بكمالها وتاريخها الديبلوماسيُ الشاعر الدكتور علي عجمي فقال:
لو يعلموا ما الضادُ خرّوا سُجدًا
لكمالها وتنافسوا وتعلّموا
هي مجدُنا، هي عزّنا، هي تاجُنا
وإلى حماها نستجير ونسلمُ
هي بيتنا الابديُ رمزُ بقائنا
فاذا نسيناها نموت ونُعدمُ
كل اللغاتِ كريمةٌ لكنها
إن فاخر التاريخُ فهي الأكرمُ
يحلّ لقاؤنا اليوم معكم متزامنًا مع احتفالات بلادنا العربية باليوم العالمي للغة العربية.
قبل أن أستغرق في العرض، تغنّيًا وتحسّرًا، أودّ أن أشيد بالجهود التي بذلتها الدول العربية، تحت إشراف منظمة “الألكسو” والتي أسفرت قبل أيام عن تسجيل عنصر فنون “الخط العربي” والذي يعتبر رمزًا للهوية العربية، على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونيسكو”.
إن لغتنا العربية، ككل لغات العالم، هي بأبسط تعريفاتها الموضوعية، التي يجمع عليها علماء اللغة واللسانيات والنفس والاجتماع، تُعرّف بوظيفتها أولًا وعلاقتها بالإنسان ثانيًا.
وظيفتها كونها أداةَ تعبير عن محصول الفكر ودخائل النفس وحملهما إلى العلن. هي أداة من أدوات صياغة المعرفة ونقلها إلى الآخر، هي الوسيلة التي لم يستطع أي أنجاز تقني خلّاق حتى يومنا هذا، أن يجاريها أو يحتلّ مكانتها في التعبير عن أغراض الإنسان ومكنوناته، وفي نقل استشعاراته التي تولّدت من حواسه الخمس والست، والتي تربطه بعالمه الإنساني من جهة وبالأطراف التي تشاركه هذا العالم من جهة أخرى.
هذا في الجانب الوظيفي
أما من ناحية علاقة اللغة بالإنسان، فاللّغة هي الإنسان نفسه، هي هويته ووطنه وأهله، هي إنسانيته وذاتيته الخاصة والجماعية، هي تاريخه وحاضره وغده ومستقبله البعيد، هي فكره وعواطفه وإبداعاته، هي فرحه وألمه، وحبّه وبغضه، هي انتصاراته وهزائمه، هي مرآته الجلية العاكسة لوجوده ودوره.
وإذا كانت كل لغات العالم، بما فيها لغتنا العربية، تشترك بهذين التعريفين الوظيفي والإنساني، فإن لغتنا الأثيرة الفذّة، تمتاز عن سائر شقيقاتها بالخصائص السامية التالية:
- أنها لغة مباركة عصماء محفوظة، لأنها الفيض النوراني الإلهي الوحيد في دنيا البشرية، الذي ربط بين السماء والأرض، وأنزل كلام الله العليّ القدير قرآنًا عربيًا بلغة العرب، على نبيّ الإنسانية محمد عليه الصلاة والسلام، وحفظه في كتاب عربي مبين “لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ َتنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ”.
- وأنها لغة الإعجاز القرآني، الذي كان ولا يزال، المرجعَ الأمين الحاسم للعاكفين على اكتشاف مكنونات اللغات وتراكيبها وقواعدها وبنائيتها، ومحطّ دراسات المشتغلين في اللغويات واللسانيات وعلوم المعاني والبيان والبديع، وأسرار البلاغة والفصاحة، والباحثين عن جواهر التاريخيات والإنسانيات وخفايا الكون والوجود.
- وأنها لغة مقاومة قاهرة لعاديات الزمان، مجبولة بماء الخلود، عابرة للتاريخ والأجيال، وإذا كان جسر دانيانغ كونشان في الصين الذي يبلغ طوله ١٦٥ كلم يعتبر أطول جسر في العالم وهو يربط بين شانغهاي ونانجينغ ونحن في القرن الحادي والعشرين، فإن اللغة العربية هي أطول جسر في التاريخ يمتد على أكثر من ألفي عام رابطًا العالمين وحاضنًا لأكثر من ٤٠٠ مليون إنسان وواصلًا ما بين ماضي الشعوب ومستقبلها الذي هو نحن ومن سيخلفوننا.
- وأنها لغة الإجلال والجمال في الحرف وفي الخطوط وفي النطق والأداء والبنى الاستثنائية للعقل البشري وجمال البلاغة والفصاحة والبهاء في الإيجاز.
- ولغة المهارة والبراعة والسبق في الشعر والعلوم والفلسفة، والقانون، والاجتماع، والحكايات.
- ولغة الغنى اللامتناهي في تدفّق الجذور والغزارة الفوّارة في المادة اللغوية وثراء المفردات والمترادفات المتدرّجة في التعبير عن الحالات النفسية والمواقف والصفات الذاتية.
- وأنها لغة المرونة والليونة والحيوية والطواعية في التوليد والنحت والاشتقاق والتعريب واستيعاب التقنيات ومستحدثاتها في الحاسوبيات والبرمجيات ومعالجة الكلمة والجملة والقابلية لاحتواء العلوم القديمة والمعاصرة.
- وأنها اللغة الكريمة المتسامحة التي أتاحت لأكثر من عشرين لغةً أخرى استخدام حروفها الأبجدية، كما سمحت لعشرات آلاف الكلمات من قواميسها للدخول في معاجم اللغات الأجنبية.
ويحضرني في هذا المقام مثالان اثنان على طبيعة هذه الجماليات وفرادتها:
حين وصف الله القمر قال: (قمرًا منيرًا)
وحين وصف الشمس قال: (سراجًا وهّاجًا)
أما حين وصف النبي صلى الله عليه وسلم فقال :(سراجًا منيرًا).
فجمع له بين الوصفين ليكتملَ الجمالُ بالجلال وليلتحمَ الضياءُ بالنور فيشرقَ على العالم كله .
**************
والمثال الثاني:
قال الزوج لزوجتهِ: أنا أُحبكِ ……
فنلقِ الزوجة الكلام ببلادة ولم تُجب !!
قال الزوج: هل قُلتُ كلاماً خطأً ؟!!!
قالت الزوجة: إنَّكَ لم تحبَّني لوحدي فقط! وسأشرحُ لكَ بالتفصيل.
فالمفعول به حقّه التأخير، فلو كُنتَ تُحبُّني حقيقة كما تعلن لقدّمتَ المفعول به وبذلك يفيد القصر، فتقول: إيَّاكِ أُحب.
أمّا قولكَ: أنا أُحبكِ، فتعني أنّكَ تحبُّني وتُحبُ غيري !!
كما في قوله تعالی [إيَّاكَ نعبدُ]، قدَّمَ المفعول به [إيَّاكَ]، لتقتصر العبادةُ لله وحده، لأنَّهُ لو قال (نَعبدُ إيَّاكَ) فتعني نعبدكَ ونعبد غيركَ، ما عاذ الله.
***************
بعض هذا الكلام لي، وأكثرُ منه ما جاء على لسان المنصفين العادلين من أدباء الغرب في حق لغة الضاد:
المؤرخ والكاتب الفرنسي إرنست رينان
هذه اللغة تبدو لنا فجأة بكل كمالها، ومرونتها، وثروتها التي لا تنتهي لقد كانت هذه اللغة منذ بدايتها على درجة من الكمال”.
المستشرق الألماني تيودور نولدكه
“من الخطأ الشائع أن نظن أن اللغة العربية فقيرة لا تصلح لبحث الأمور المعنوية فعلى العكس يندر أن نجد لغة أخرى كاللغة العربية تصلح لأن تكون وسيلة للتعبير عن الفلسفة القديمة وحكمة الأولين”.
المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون
“استطاعت العربية أن تبرز طاقة الساميين في معالجة التعبير عن أدق خلجات الفكر سواء كان ذلك في الاكتشافات العلمية والحسابية أو وصف المشاهدات أو خيالات النفس وأسرارها.. واللغة العربية هي التي أدخلت إلى الغرب طريقة التعبير العلمي.”.
المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة
“كيف يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمالَ هذه اللغة ومنطقَها السليمَ وسحرَها الفريد؟”
المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير
“إن من أهم خصائص العربية قدرتَها على التعبير عن معان ٍثانوية لا تعرف الشعوب الغربية كيف تعبر عنها”.
المستشرق الإيطالي كارلو نلينو
“اللغة العربية تفوق سائر اللغات، رونقاً وغنى، ويعجز اللسان عن وصف محاسنها”.
الرسام الإيطالي أندريو لوتي
“الخط العربي سيمفونية متناسقة الأنغام تتجدد كلما نظرت إليه”.
الكاتب الروائي الكردي جان دوست
يقول عن مبررات استخدامه اللغة العربية في كتاباته:
أنا أتقن العربية تماماً مثل لغتي الكردية، بل ربما أكثر منها، فهي تجذبني بقوة إلى ملكوتها الواسع، لكنني كنت أصدّها، أقاوم إغراءها الكبيرَ خَشية الغرق في لذائذ عمقها اللانهائي. اللغة العربية حسناء خارقة الجمال تراودني عن نفسي وتسحرني بفتنتها كلما اشتد عليّ الكرب وشعرت بعجز لغتي في التعبير عن النار التي تتقد بين ضلوعي.
ثانيًا: في موضوع الثقافة
أما ثقافتنا العربية، التي تجلّت بهذه اللغة واغترفت من معين مزاياها وقدراتها، وخاض بها العلماء والأدباء والفلاسفة والفنانون مجالات الفكر والنفس كافة، فقد أستحوذت طوال قرون على عقول العالم وأغنت المكتبات في مشارق الأرض ومغاربها بأحدث وأروع ما أنتجه الفكر الإنساني في معارف الدين والدنيا، طبًا وتشريحًا وفلكًا وفلسفة ورياضيات وتاريخًا وجغرافيا ومنطقًا وحكمة وقصة وشعرًا وغناء…ولمعت أسماء نجوم المعرفة لتشرق شموسًا حضارية تزيل دياجير القرون الوسطى التي غطّت الغرب كله.
هذا في الوجه المشرق
أما في الوجه الخافت الذي فقد وهجه وما يزال يقاوم بإطلاق بعض الإشعاعات الخجولة هنا وهناك، فلا بد من الاعتراف أن ثقافتنا العربية، ولغتنا الحاضنة لها، تمران في أزمة حادة، وتتعرضان لانتكاسات مصيرية عرقلت مسارنا الحضاري وعطلت حركتنا في التحديث والنهوض، وحجبت حضورنا العالمي، بعد آن داهمتنا جحافل التتار والمغول، وتعاقبت على بلادنا وأزمنتنا حرائق الاستعمارات وزلازل التخريب والتدمير، في مسلسل من المآسي والنكبات لا تكاد تنتهي حلقة منه حتى تتولّد حلقات أخطر وأعظم.
فمن المتعارف عليه، أن الثقافة العربية، ومن ضمنها اللغة التي تستوعبها وتنقلها، لا تنفصل أبدًا عن واقع أصحابها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وبقدر ما يشهده هذا الواقع من مظاهر التقدم والقوة أو التخلف والانهزام، بقدر ما تنعكس آثار ذلك إيجابًا وسلبًا على الثقافة واللغة معًا.
فالثقافة، بمفهومها الشامل، لا تتوقف فقط عند حد الامتلاء بالمعارف إنما بتوظيف هذه المعارف من أجل خلق منظومة الوعي واستشراف آفاق التحسين والتغيير في البيئة التي يتم فيها حراكها الفعلي، وهي مشبعة بالقيم والأخلاق والمثل.
والثقافة بهذا المعنى، ليست سلطة، وإن جاهدت لتفرض معطياتها التنويرية، إنما هي إحدى أهم وسائل السلطة الأمينة عندما تطمح لترسيخ عقدها المجتمعي لتحقيق العدل والازدهار والسلام.
وما دامت معظم البيئات المنتمية للثقافة العربية مأزومة رازحة في بؤر المعاناة والضعف، سوف تبقى ثقافتنا عرضة لانحسارات متتالية وخارجة عن ميدان الانطلاق والتأثير والتمدّد.
وإن أفضل وصف لمعاناتنا الثقافية العربية اليوم هو تلازمها لواقعنا السياسي المضطرب ولأحوالنا الاقتصادية والاجتماعية المتردية، تلازمًا كالجسد الواحد، تمثّلًا بالحديث الشريف إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
المحور الثاني: اللغة العربية أين يكمن الداء والدواء في عصر التواصل الافتراضي؟
داؤنا اللغوي لم يبدأ مع عصر التواصل الافتراضي إنما تعاقبت عليه النوائب وبدأت أعراضه قبل هذا العصر بزمن طويل، بفعل الاستهتارات والاستهانات التي مارسناها بحق لغتنا وبفعل التهديدات التي تواجهها من الداخل والخارج.
لن أخوض عميقًا في تفاصيل وحيثيات ومصادر هذا الداء، لما يستوجب ذلك من وقفات طويلة وشروحات معمّقة، ولكن سأكتفي بإيراد العناوين العريضة التي تمثّل هذه العوائق المرضية، والتي تبدأ من الأسرة نفسها وتمتد نحو المدرسة والتربية والمدرّس والمناهج والكتب المدرسية وتواصل شمولها للمجتمع والمؤسسات ووزارات الثقافة والسياسات المطبّقة للتنمية اللغوية والثقافية، وتنتهي عند المثقفين والمنتجين بهذه اللغة في المجالات كافة.
فمن أفدح ما أصابنا في الصميم هو تلبّسنا لحالة الانهزام والتراجع أمام التيارات التي اجتاحتنا واستسلامنا لمنطق التفرنج والتمنطق بهوية الأجنبي وتبشيراته، طلبًا للارتقاء إلى مستوى قوته وهيمنته، فتخلينا عن لغتنا لصالح لغة المستعمر، وبنينا أسس نهضتنا الحديثة على أنقاض حملة بونابرت وسارعنا للاستسقاء من ينابيع الغرب بقوافل متوالية من البعثات التي تكفّلت ببعث نهضتنا بنسيج غربي خارج عن قماشة تراثنا وقيمنا وحضارتنا، ثم أمعنّا في الترويج لثقافات ولغويات من خارج فضائنا أملًا في اللحاق بمواكب المهاجرين وهربًا من الواقع الأليم، ودفعنا أبناءنا للتعلّق باللغات الأجنبية وحثّهم على متابعة البرامج وقراءة الكتب الأجنبية وتشجيعهم على التحدّث والكتابة بغير لغتهم الأم تأمينًا لفرص النجاح وحصولهم على عمل لائق لمستقبلهم.
وهكذا فقدنا أعز وأمهر طاقاتنا العلمية والفكرية الشبابية التي احتلت مواقعها في البلاد الأخرى وقدّمت لها بلغتها وثقافتها أفضل إنجازاتها ومبتكراتها علمًا وأدبًا.
أضف إلى هذا ما ابتلينا به من أصوات ودعوات للإصلاح اللغوي، تحت ستار التحديث والتبسيط والتسهيل، فوجدنا أنفسنا مع تيّار من القاصرين، يطالبون مرة بالتخلي عن الحرف العربي، وأخرى بالكتابة والتأليف باللهجات العامية وطورًا في تبرير ارتكاب الفواحش اللغوية، فكانت حالنا وكأننا أمام سائق عاجز متهوّر أرعن اصطدم بإحدى أشجار الشارع فسارع مطالبًا بقطع الأشجار من جذورها تسهيلًا لرعونته وطيشه.
أما من جهة التحديات والتهديدات الخارجية
- فقد نجح الاستعمار اللغوي بتفريغ الامة من عقيدتها اللغوية وإضعاف الثقة بدور لغتها وجوهرها ووزنها وثقلها في كيان الامة وهويتها وتاريخها.
– الترجمات المغرضة والناهبة لتراثنا العلمي والأدبي والمنسوبة إلى مؤلفين غربيين: عالم تركي مقيم في ألمانيا فؤاد سيزيكين تأهل لجائزة نوبل ولم ينلها منذ ستين عامًا يعكف مع فريق كبير فيهم الأتراك والألمان والعرب على فحص الكتب الغربية ومراجعتها وترجيعها إلى أصولها العربية
جمع حوالي ١٥٠٫٠٠٠ كتاب
توصّل إلى ٣٥٠٠٠ تعريفًا بأصولها العربية
يترجمون هذه الكتب ويزيلون أسماء مؤلفيها وينسبونها لهم
في البصريات
في الجراحة والتشريح
في علم الفلك والجغرافيا والطقس
في علم البحار والملاحة وهي التي تمت في العصور ١٤ و ة١ و١٦ عصر النهضة آنذاك.
– العولمة والسيطرة اللغوية
تهدد العولمة اللغات بالاندثار وعلى الرغم من مقاومة بعض اللغات لهذه الهجمة حفاظًا على هويتها إلا أن الإنجليزية فرضت نفسها لغة التقانة والعصر والتجارة والاقتصاد وبات تجاهلها صعبًا لا سيما مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي.
في كتابه الصادر حديثنا، بعنوان: (أي مستقبل للغات – الآثار اللغوية للعولمة)، يحاول الباحث اللغوي الفرنسي لويس – جان كالفي، أن يجد مصدرًا لحماية اللغات في ظل العولمة من هيمنة بعض اللغات ومركزيتها، كما يسعى إلى بلورة ما أسماه “علم السياسة اللغوية”، الذي يساعدنا بالإجابة على الأسئلة المعقّدة التي تطرحها العولمة في جانبها اللغوي. فالسياسات اللغوية برأيه، تشكّل “تدخّلات” تطال اللغة، أو العلاقات بين اللغات.
ويطرح الكاتب في هذا السياق مسألة موت اللغات، معتبرًا أن اللغات التي تندثر تؤشّر إلى حالات تتلاقى فيها عوامل سياسية، واجتماعية، واقتصادية، ونفسية، لتدفع بالمتكلّمين إلى الاستغناء عنها تدريجيًا، فتبطل أن تكون لغاتٍ “ناشرة” (أيّ لغة التواصل المشتركة) شيئًا فشيئًا.
هذا في بعض عوارض الداء أما في الدواء فإني لا أجده إلًا في تحقيق تحوّل نوعي نحو الأفضل عن طريق استرداد استقرارنا السياسي والاقتصادي والتخلص من حالات الضعف والانكسار والتبعية ومن مركّبات النقص والتخويف والتواكل.
وبانتظار ذلك، ويبدو لي أنه انتظار طويل، ومن أجل أن نستعيد الثقة المفقودة بلغتنا ووجودنا ودورنا في الحوار مع العالم ومشاركته في رسم مستقبل حضارة الإنسانية، علينا أن نبدأ بالتصالح مع لغتنا واستعادة أواصر الحب والاحترام والاعتزاز بها لنجعلها عقيدة لنا وأن نبادر سريعًا لإطلاق ورشة الحماية والتطوير من بوابة التعليم الذي هو من أهم استراتيجيات التحصين والإصلاح.
أما بشأن التأثيرات التي فرضتها مواقع التواصل الاجتماعي فلا يصحّ أن نحمّلها كل تبعات عللنا لأنها، وإن قادتنا إلى ممارسات خاطئة في بعض الأحيان، إلا أن دورها الإيجابي كان بالغًا وجليًا لاسيما في مجال اللغة والثقافة بعامة.
تعالوا نتلمّس معًا الآثار الإيجابية لهذه المنصات والمواقع:
- توسيع دائرة العلاقات الاجتماعية وتكوين صداقات جديدة، الأمر الذي لبّى حاجة إنسانية لا يمكن الاستغناء عنها.
- تسهيل التواصل مع الأصدقاء الذين انقطع التواصل معهم أو مع من لا يمكن اللقاء بهم.
- إزالة الحواجز التي تعيق التواصل والاتصال.
- التخفيف من معاناة الاغتراب لدى الأسر المهاجرة، وتمكينها من التواصل مع الأهل والأقرباء، صوتًا وصورة، والوقوف باستمرار على أوضاعهم وأحوالهم.
- نقل الآراء والأفكار المتعلقة بموضوع ما والتعبير عن الرأي ودعم الآراء المساندة.
- صقل الفكر والإبداع، وإنشاء المنشورات، ونشرها بسهولة، ويسر. وكلنا نعلم أن تحقيق مثل هذه الرغبات كانت أمرًا عسيرًا يتطلب الكثير من الشروط الموضوعية والفنية لدى وسائل الإعلام التقليدية.
- إتاحة المجال لتلقي الأخبار لحظة حدوثها خلافًا لما تفعله الوسائل الأخرى.
- وسيلة فعالة للترويج للشركات والأعمال التجارية.
- التعرف على الثقافات الأخرى.
- المساعدة في تأمين فرص عمل.
- الخدمات الهامة التي قدّمتها هذه الوسائل أثناء جائحة الكورونا، سواء في مواصلة سير العمل لدى الشركات، أو في توفير التعليم عن بعد في المدارس والجامعات، أو في توفير منصات التحاور والنقاش للمهتمين والمنتديات المختلفة.
أما في انعكاساتها السلبية فلا بدّ أن نعترف أنها:
- تلعب دورًا كبيرًا في تعديل إيقاع الحياة اليومية.
- لها تأثيرات كبيرة وخطيرة على الصحة النفسية والعقلية (الاكتئاب ومشاعر الحزن – البعد عن النشاط البدني والمكوث لساعات أمام الشاشات – العزلة – التنمر -تشتيت الذهن وعدم التركيز على الواجبات المهنية والأكاديمية – الإدمان – انقطاع التواصل المباشر مع الآخرين – التأثيرات الحادة على نمو الأطفال وسلوكياتهم – الانعكاسات على العلاقات الأسرية.
- الإسفاف والابتذال في الكثير من الكتابات والمنشورات، والاستخفاف بقواعد الكتابة، وإذاعة الأخبار الضالة والمسيئة للأخلاق العامة.
المحور الثالث ماذا ينتظر العالم بعد ٢٠٢٢؟ هل نحن على أبواب مرحلة جديدة؟
قبل أن أتناول هذا المحور، أودّ أن أستعرض معكم أحدث الإصدارات وأستذكر بعضها السابق، وأكشف بعض الظواهر والمعطيات التي أراها مساعدة على تبيّن ما ينتظره العالم من تحوّلات مستقبلية قريبة.
من الطروحات المثيرة التي شغلت الأوساط الثقافية حول العالم خلال الأيام الماضية، ما بشّرنا به السياسي والديبلوماسي البراغماتي هنري كسينجر الذي ساهم في تشكيل خريطة العالم الجديد بخاصة في منطقة الشرق الأوسط في سبعينيات القرن الماضي، حيث ينبري الآن ليساهم في رسم معالم مستقبل البشرية حاملًا وجه الفيلسوف السياسي الحاذق، معتبرًا أن الذكاء الصناعي سوف يكون له اليد الطولى في كل جوانب الحياة المادية والفكرية.
فقد أصدر كيسنجر مؤخرًا بمشاركة اثنين من كبار الباحثين المرموقين في هندسة البرمجيات وعلم الحاسوب هما إريك شميث ودانيال هنتلوكر، كتابًا بعنوان: (عالم الذكاء الصناعي ومستقبلنا البشري- دراسات في المستقبليات).
يتناول هذا الكتاب واحدة من أخطر المعضلات التي تواجه الإنسانية إذا لم يتم التفاعل معها بحكمة وعقلانية، ألا وهي الذكاء الصناعي.
يعرض الكتاب في فصول هذا الكتاب مجموعة من القضايا الأساسية التي ستهيمن على مصير البشرية في الحقبات التالية، ومنها: مسألة منصات الشبكات العالمية – الأمن والنظام العالمي – الذكاء الصناعي والهوية الإنسانية – الذكاء الصناعي والمستقبل – الطبيعة التواصلية اللحظية المشتبكة التي خلقتها الشبكات…
ويكشف التداخل بين الرؤى الفلسفية والمضامين التقنية لموضوع الذكاء الصناعي.
ويؤكد أن الذكاء الصناعي سيؤثر عما قريب في كل حقل من حقول النشاط الإنساني، وسوف ينجح في تحقيق تغيير شامل في الحياة الإنسانية على الأصعدة كافة في الاقتصاد والمجتمع والسياسة والأمن الوطني والخريطة الجيوبوليتيكية ومصادر القوة الاستراتيجية للدول.
ويطرح عدة أسئلة تشكّل بحدّ ذاتها مدعاة للدهشة والقلق والخوف:
كيف ستبدو الابتكارات المحفّزة بالذكاء الصناعي في حقول الصحة والبيولوجيا والفضاء؟
كيف سيكون شكل الحروب المدعمة بتطبيقات الذكاء الصناعي؟
هل سيكشف الذكاء الصناعي عن جوانب مخفية للواقع لا سبيل للكائن البشري بلوغها في نطاق قدراته البشرية؟
كيف سيتغير البشر عندما تبدأ الوسائل المدعّمة بالذكاء الصناعي في التأثير في صناعة القرار البشري؟
ولاحظوا أخطر الأسئلة التي ينتهي إليها: ماذا يعني ان نكون بشرًا في عصر تتزايد فيه قدرات الذكاء الصناعي حتى تبلغ تخومًا تتفوّق فيها على قدرات الذكاء البشري البيولوجي؟
هذا هو الطرح الأول
أما ما أريد تذكيركم به، فهو ما بشّرنا به سابقًا، في تسعينيات القرن الماضي، الكاتب صموئيل هنتغنتون في كتابه الموسوم “صدام الحضارات” حيث طرح نظريته القائلة بأن الصراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون الاختلافات الثقافية المحركَ الرئيسي للنزاعات بين البشر في السنين القادمة.
ففي عام 1993، أثار هنتغتون جدلاً كبيراً في أوساط منظري السياسة الدولية بكتابته مقالة بعنوان صراع الحضارات كانت رداً مباشراً على أطروحة تلميذه فرانسيس فوكوياما المعنونة نهاية التاريخ والإنسان الأخير. جادل فرانسيس فوكوياما بأنه وبنهاية الحرب الباردة، ستكون الديمقراطية الليبرالية الشكلَ الغالبَ على الأنظمة حول العالم. هنتغتون من جانبه اعتبرها نظرة قاصرة، وتوسع في مقالته وألف كتابًا بعنوان صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي جادل فيه بأنه وخلال الحرب الباردة، كان النزاع إيديولوجياً بين الرأسمالية والشيوعية ولكن النزاع القادم سيتخذ شكلًا مختلفًا ويكون بين الحضارات السائدة.
وهذا هو الطرح الثاني
أما الوقائع التي تخيّم على العالم الآن وتنذر بمستقبل مختلف ومخالف لكل ما ألفناه في تاريخنا القديم والمعاصر فهي تتمثل في الجوانب التالية:
- جموح ظاهرة العولمة وتوسّعها وتجذيرها حيث شكّلت أولَ ضربة لسنّة التنوّع الكوني والإنساني خصوصًا وأولَ محاولة لاحتكار الحقيقة وحجزها لدى جهة واحدة، وأولَ مسمار في نعش الحوار والتبادل الثقافي بين الشعوب والحضارات.
- الإمعان في الترويج للعلمنة وتوسيع نشرها مع ما تطلقه من شعارات حول قدرة العلوم التطبيقية دون غيرها على الإجابة على جميع الأسئلة المطروحة حول حقيقة الوجود والقضايا الكبرى التي تعترض الحياة على هذا الكوكب، مطلقة العنان للحريات كافة دونما قيود ولا حدود، وتنشيط وتيرة التطبيقات التكنولوجية، ومتهمة سائر النظريات والعلوم والثقافات الأخرى بقصورها في هذا المجال وبأنها كانت وراء كل الانتكاسات والنكبات التي أصابت العالم.
- الجائحة الوبائية التي تطوّق العالم بأسره، والتي تتناسل فصائلها واحدة بعد أخرى ويومًا بعد يوم، والتي تتناقض الآراء العلمية والقانونية والاقتصادية حول أسباب منشئها وتطوراتها وتحوّلاتها وضراوة تأثيراتها على مجرى الحياة الإنسانية وتقاذف التهم حول أهدافها كما حول السياسات المتبعة في التعامل معها، إضافة إلى كم النظريات التي تطلق حول الجهات العالمية المستفيدة منها لتحقيق المكاسب المادية وترسيخ المعتقدات بانهيار أدوار الأديان والأخلاقيات والفلسفات والتاريخ والثقافات والكيانات السياسية والاقتصادية المعروفة، أمام المدّ الجارف لإعصار الاستهلاك المادي المتفلّت من كل القيم والمبادئ التي سادت العالم منذ فجر الإنسانية.
فلذا، فإننا أمام هذه الطروحات والتبشيرات والوقائع علينا أن نتساءل بخوف عن مصير الإنسان ومستقبله، وعن مصير الأرض والبيئة والحياة نفسها، وعن مصير المؤسسات والمنظمات العالمية الكفيلة بتحصين السلام العالمي وحماية الحقوق وتثبيت العدالة ووقف الاعتداءات، إذا ما استمرّ هذا التوجه المخيف نحو تعميم مفهوم “المدينة الفاسدة” المكتنزة بثروات وقدرات علمية ومعرفية هائلة والعارية من أي حصن أخلاقي يحمي العالم من ويلات خروج الوحش على صانعيه والآخرين.
هل نقبل التحدّي؟...
تعقيبًا على ما جاء في هذه الندوة، كتب الصديق الأديب الروائي الدكتور محمد إقبال حرب، في مدوّنته، طارحًا السؤال الكبير: هل نقبل التحدّي؟…وجاء في مقالته:
21 ديسمبر/ كانون الأول 2021
د. محمد فبال حرب (مدوّنتي).
لو أردنا أن نتكلم عن مستقبلنا وجوديًا وحضاريًا للمحافظة على مكانتنا كجنس بشري مميز قدّم الكثير فيما مضى، هو أن نستشف طريق المستقبل ونعمل للقائه بعد فترة زمنية قصيرة فننجو قبل موعد الاندثار. لنفعل ذلك علينا أن نتخلى لفترة وجيزة عن مشاعرنا العصبية والدينية والاجتماعية لنفكّر بتجرد.
عبر التاريخ، اندثرت أمم عاشت أضعاف ما عشناه، واندثرت لغات استمرت زمنًا أطول من لغتنا، كالسومرية والفرعونية. كما انهار الإله بعل بعد عدة آلاف سنة من تزعمه مجلس الآلهة وسقوط آلهة الفراعنة بعد بضعة آلاف سنة. لغات السابقين كانت عظيمة الشأن لهم كما لغتنا، ودياناتهم كانت بنفس قداستنا لإلهنا. كلّهم سقطوا مع بروز عالم جديد لم يصدّقوا قدرته على تفكيك ممالكهم أو تدمير آلهتهم فلم يصلحوا من أنفسهم ولم يتخذوا الإجراءات الضرورية لتقليل الخسائر من أجل الاستمرارية.
نحن نواجه نفس الأخطار في بلادنا، نبكي الحاضر ونعيد حكايات الماضي كبلسم يُسكّن ضعفنا. لا أقول إنه لا يجب أن نتذكر ونفخر، بل علينا فعل ذلك من باب مشاركتنا الحضارية العميقة في أصول العلوم والفلسفة التي كوّنت مدخلًا لما نحن عليه عالم اليوم. ولا ننسى أن بلادنا قدمت الكثير قبل الوجود الإسلامي والمسيحي وخلالهما. كما علينا ألا نعتب كثيرًا على الغرب لاستقطابه الأدمغة العربية لأننا في عصورنا المتوهجة استقطبنا علماء العالم ونسبناهم إلى حضارتنا، كالخوارزمي وابن حيان وغيرهم.
نحن الآن في نفس الموقع الذي كانت عليه بلاد الشام ومصر والمغرب قبل دخول الإسلام، وكما كانت عليه آسيا وأوروبا مع اشراقة مملكة المغول. لم يصدق أحد منهم أن الإسلام سيطغى وأن المغول سيدمِّرون كل الحضارات. المدّ التكنولوجي والرأسمالية اكتسحا العالم بذكاء وهدوء. هل من مفكر، صاحب قرار يتعظ؟
لننجو من الزحف المعلن ولننهض ونلاقي العالم عند زاوية الحضارة علينا باستشفاف المستقبل ورسم خارطة طريق متكاملة نبني على أساسها الجيل الجديد ليفخر بلغته وأرضه وحضارته، ليكون الحافز الأساس لبناء مستقبل لا يهتز لارتعاشات العولمة، ولا تستعبده تكنولوجيا صُنعت لشعوب أكثر تطورًا فاقتناها بغباء الجاهل ولم يستفد إلا من هوامشها. بناء الجيل الجديد يبدأ باللبنة الأولى، ألا وهي أطفالنا. ولا يتم ذلك إلا ببناء أسرة واعية ومدرسة نموذجية تنبذ العنصرية بأنواعها القبلية والدينية والعرقية ليتقبل المجتمع بعضه بعضًا في بيئة من العلم والمعرفة العصريين في بيئة يتساوى فيها الجميع في حاجاتهم وضروراتهم الحياتية كما حرية معتقدهم تحت راية العلم والمناقب الاجتماعية العادلة.
لم يعد لدينا رفاهية الوقت والتغاضي عن لصوص الثروات تارة باسم الحكم وتارة تحت التهديد بالفناء. لم يعد لدينا وقت لنكون أغبياء، أتباع، نُساق إلى زريبة الوجود تحت رايات بشرية مقدّسة تتخذ من الدين ستارًا مقدّسًا لمصالحها الشخصية. نحن في عالم تسيطر عليه المادية والرأسمالية لسبب واحد، ألا وهو عدم وجود البديل المنافس على صعيد إدارة العالم. لذلك أصبحنا عبيدًا لدول تُنتج حاجاتنا من أكل وملبس وتسرق ثرواتنا. شعوبنا تحت مجهر يصرّ على إيقافها عند عتبات زمن غبر بمساعدة جهلة وخونة يخافون من الفناء لو اشتعلت شمس المعرفة في بلادنا.
هل نستطيع أن نتخلّص من فلسفة وممارسة الرأسمالية التي تحكم العالم بقوة وخباثة؟ ذاك المستعمر الجديد صاحب الوجه المبتسم الذي يتواضع منحنيًا وهو يدسّ لنا سمّ الجمود الفكري الذي أدمنّا عليه؟
ذاك هو السؤال الذي يجب أن نتوقف عنده لأننا نملك الإمكانيات الفكرية المكبّلة والملتجئة إلى عقر دار مستعمرها، والثروات المادية والطبيعية من أجل المنافسة والتقدم. لكننا مع الأسف لا نملك اللبنات الأساسية لبناء صرح الوطن. فالعدالة سجينة الطغاة، والثروات في معاقل أعداء الأمة. والأهم هو فقداننا للمواطن المتعلم، المثقف، الذي يتخذ المعرفة نبراسًا والعمل قدسية عطاء. فمع التدمير الذاتي والمفتعل للمنظومة التعليمية في أكثر من خمس دول عربية تضاعف الجهل مرّات ومرّات، كما تضاعفت الأوبئة الصحية والفكرية وسقط الحرف سقوط المحارب الجبان بيد حرف أجنبي يُشعر شعوبنا بالدونية.
هل نقبل التحدّي وننتصر؟
نقبل التحدّي ولا نندثر...فتاريخنا شباب
ردَّ المفكّر د. علي حرب علي مقالتي “هل نقبل التحدّي؟” بكل ثقة وإصرار على التحدّي والانتصار على ما حاق بنا من هزائم متواليات إيمانًا بالقوة الكامنة التي تتأجج في أعماق كل منّا لتكون بركانًا متشظيًا بالعزة والكرامة والعطاء الإنساني والحضاري ذات يوم قريب. شكرًا للدكتور علي حرب على هذه الجرعة المركزّة من الأمل والاصرار على قبول التحدّي.
طالعني الصديق الروائي الأديب الدكتور محمد إقبال حرب، قبل أيام، بمقالته “هل نقبل التحدّي”، مفيدًا أنه استقاها من وحي محاضرتي حول “واقع اللغة والثقافة العربيتين…مزايا ورزيا”، والتي عرضتها افتراضيًا على منبر ملتقى “الحرف العربي”، يوم السادس عشر من شهر ديسمبر / كانون الأول الجاري.
وتحت وطأة سؤاله الصادح، المقتحم لدياجير اليأس وأنفاق الإحباط، والداعي “للتفكّر بتجرّد” ونفض ما علق في نفوسنا وأفكارنا من ملوّثات “المشاعر العصبية والدينية والفكرية” أملًا في “النجاة قبل الاندثار” من حالة الغرق التي تعمّنا شعبًا، ولغة، وثقافة، وحضارة.
أقول، تحت وطأة هذا النداء، وجدتني مدفوعًا، وقد هزّتني المقالة بتجرّدها وعقلانيتها وتأسيسها على المنطق العلمي الاستكشافي المرتكز على فحص المشاهدات وقياسها على تجارب التاريخ، لأجيب يا صديقي:
نداؤك أول طريق التحدّي!…
بلى يا صديقي نقبل التحدي وندخل الحلبة، فتاريخنا العربي ما زال شبابًا رغم وهنه، متسلحين بقراءتك الواعية لغابر الزمان والبشرية، وتصميمك على خلع الأردية المستعارة.
سوف ندخل الحلبة، ولن نندثر ولن نتبدّد، ولم يحن بعد يوم الاهتراء.
أعمار اللغات والشعوب والحضارات لا تقاس بعدد دورات السنين إنما بمحصول الثقافة الذي خزّنته في ذاكرة الأعمار والتاريخ.
السومريون والفراعنة ومن قبلهم ومن بعدهم…والمسمارية والهيروغليفية والبابلية والسنسكريتية وما قبلها وما بعدها…صحيح انها غابت عن قائمة الزمان وعصفت فيها الحروب والصراعات والكوارث الطبيعية، لكن شواهدها ورموزها وحكمتها وفلسفتها وحكاياتها ما زالت تحيا في جينات شعوب الأرض قاطبة.
ما همّنا أن عرّج بنا التاريخ واهتزت الفروع وتهاوت ثمار ناضجات.
وما همّنا أن استهلكنا ولبسنا وتطبّبنا بما أبدعه الآخرون.
الحياة دورات صاعدة وهابطة يا صديقي، وقد استهلكت الدنيا فكرنا وعلومنا وحروفنا وأرقامنا وطبّنا وكل بضائعنا عمرًا طويلًا، واستنارت بشموسنا للخروج من ظلماتها، على غرار ما فعلنا وفعل الآخرون في دنيا الأخذ والعطاء والتبادل والتكامل والتشييد على أسس إنسانية شاملة، وحين استقبلنا عقول العلماء من غير العرب واحتضنّا بدائع إنجازاتهم بلغتنا وحضارتنا، لم يأتونا مهجّرين مقموعين هاربين، كما هي أحوال أغلب البارزين من أبناء جلدتنا في دنيا الله الواسعة، إنما جاؤوا ينهلون، من دار السلام والعدل والأمان، ما طاب لهم من فكر وفلسفة وحكمة.
كنت أتحسّس خطوط الطول والعرض في خريطة ندائك وطموحك.
وكنت أتلمّس ما خفي من عناصر القوة المغيّبة قسرًا وطواعية في حنايا هذه الامة التي طال نومها واستسلامها.
وكنت أبحث عن بقايا جذوات تئزّ وتشرقط وتتوهّج رافضة الخبوت، في خريطتك العربية المحروق جسدها غربًا وشرقًا، وجدت بقايا رماد تصلح أن تكون سوادًا وغذاء لأرض تتعطّش للعطاء وتختزن في شرايينها جميع عناصر البعث والحياة، إيمانًا وأخلاقًا وقيمًا، ولغة وفكرًا وثقافة وإبداعًا وقدرات ومهارات وقوى، لكنها تنتظر نفخ الروح فيها لتنتعش.
قد يكون سواد الصورة في أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية طاغيًا على سائر الألوان، وقد تكون المحن والأزمات راخية أثقالها بما يفوق قدرة التحمّل والأمل، لكنك، ولكننا، ولكن من يشاركنا دخول الحلبة لقبول التحدّي، من أنقياء وأصفياء أهل الثقافة والوعي، ما زالوا بعدد النجوم اللامعة لا تحتاج إلا تلاقيًا وتجمعًا لتكثيف شتات الضوء.
لأنني، كما أنت وأمثالنا، مؤمنون بالعقل والفكر. ولأننا مؤمنون بالبذور الصالحات المبثوثة في أرضنا العربية الواسعة، ولأننا مؤمنون بثقافة الانفتاح والاعتدال.
أطلقُ تساؤلك نداءً للتلاقي وإضاءة المزيد من معالم الطريق، وقد فنّدت أكثرها في محاضراتي المتكرّرة، لبدء رحلة التحدّي والتوقّف عن النواح والبكاء اللذين لا يوقفان العواصف الهوجاء الضاربة وجودنا من الجهات كلها.
فلندع الآخرين يفتحوا المريخ والقمر والشمس إذا تمكنوا؟!…ولندعهم يبتكروا ما شاءوا من عقول ذكية خارقة، فلكل قوة قاهرة دورها في تاريخ الحياة والأرض والناس.
ولتبدأ نحن بفتح المغاليق المحكمة الصدئة في عقولنا ونفوسنا، ولنرفع بناء خطاباتنا إلى مستويات القيم الأخلاقية السمحة مع شركائنا الأصليين في الأرض والتاريخ والحضارة، ولنبادر بلا تردّد للتخلّص من عقد الدونية والعجز، ومن رهاناتنا الخاسرة على الأطراف الأخرى.
يبدأ التحدّي بإعادة بناء الذات وبناء الأجيال وبناء علاقاتنا مع العالم. ولا ولن يتمّ ذلك إلا على أيدي الصفوة من المثقفين التنويرين الأحرار.