الرواية العربية
تيّار الثقافة بين الراوي والمتلقّي

د. علي منير حرب

29/01/2022

أرحب بكم جميعًا باسم الاتحاد العالمي للمثقفين العرب وباسم صالون مرويات ومؤسسته الدكتورة زينب لوت التي تطلق فعالياتها الثقافية مع بداية العام الجديد، وباسمي شخصيًا.

كما يسرّني أن أرفع للدكتورة زينب أصدق التهاني لإصدار كتابها الموسوعي الجديد “التحريم في أدب الحريم”، والذي اعتبره مرجعًا تاريخيًا شاملًا لمسار الحركة النسوية والنسائية عبر العصور، في العالم كما في بلادنا العربية.

  1. كيف تقيّم المثقف في تلقي الرواية من جهة والمثقف الذي يكتبها؟

يتراءى لي، أن العَلاقة بين الكاتب والمتلقي هي علاقة ثقافية تبادلية تولّد تيارًا بين الطرفين. وأقول علاقة ثقافية، لأنني أفترض جدلًا، أن الأديب، أو كاتبَ الراوية، بصفته الثقافية، كجهة مرسلة، لم يتنكّب أعباء صناعة وخلق عالم نصّه الأدبي ليقف فقط عند تخوم المتعة الجمالية وإثارة الخيال والتسلية، كما لم يقصد فضح الواقع الاجتماعي، بصوره المختلفة بهدف الاكتفاء بالفرجة على هذه الفضائح، إنما كان في تصوّره، إعادة خلق قطعة من حياة أو مجتمع حيّ بشخوصه وأحداثه يحرّكهم بواقع أو بخيال، مستخدمًا ثقافته المعرفية ومراقباته الاجتماعية وخلفياته ومكنونات دواخله وتصورّاته، ليسجل في نصّه ما يريد أن يقرع به ذهن القارئ ومخياله ويحرّك المناطق الخامدة في مشاعره ورؤاه.

من هذا الجانب تحديدًا، والمتعلق بفرضية ثقافة الكاتب الحتمية، يمكننا أن نفهم الاتجاهات الحديثة في النقد والتي تنادي بضرورة تجاوز عمليات النقد التقليدي التي تقتصر على البنيوية الجمالية للنص إلى كشف المعاني المضمرة الدالة على الأنساق الثقافية التي انسابت داخل النص بوعي من الكاتب أو من غير وعي منه، والتي تطرح القضايا والخفايا غير المعلنة في السياسة والاجتماع والنفس والمعتقدات والأيديولوجيات ….

فما يمكن أن يكون مختفيًا تحت النص يحتاج بالتأكيد إلى قارئ قارئًا مثقف أيضًا لكي يلتقط مفرداته ودلالاته.

وهنا يكمن الربط بين المبنى والمعنى، أو بين النقد الأدبي والنقد الثقافي.

وأنا أعتقد أن البعد الثقافي، الذي يُعنى بكشف المستور وبيانه وتفسيره، يمثل أهمية لا تقل عن البعد الأدبي أن لم يرتق أكثر منه لأنه يحمل في طياته الكثير من خصائص وأدوات ومرامي النقد الأدبي.

ما يُميِّزُ الطليعيين التنويريين المبدعينَ عن سواهم من البشر هو دأبهم لتوظيف طاقاتهم الإبداعية ونجاحهم في فتح الأفق المسدود في عقول المتلقِّين، يعجز العاديون من الناس عن امتلاك أسرار المفاتيح القاهرة لأقفالها، ومن أولى مهماتهم تحريضُ العقول من خلال استفزاز المشاعر لإشعال الوعي أمام الوقائع التي تحدّ وتعيق الحريات والكرامات.

وهنا تبرز مسؤولية المبدع الثقافية.

كما أن القارئ، كجهة مستقبلة متلقية، إن لم يكن مؤهلًا ومستعدًا لتلقف الحدث والتفكّر فيه والتفاعل معه، أي إن لم يكن ممتلكًا لإرهاصات الفعلين الثقافي والنقدي معًا، فإنه سيبقى تحت تأثير الانفعال العاطفي الذي سرعان ما تخبو جذوته بعد حين، من غير أن يتحوّل إلى مؤثّر محفّز ومساعد على تحديد موقف إيجابي تجاه معطيات النص ومضامينه.

  فالكاتب والمتلقي هما وجهان متكاملان لصورة الثقافة في نهاية المطاف.

أعتقد أن خاصية السرد تتجلى بأروع حللها البلاغية ومعانيها في التحرير والتنوير، في القصص القرآني الذي شكل ثلث القرآن الكريم وتناول موضوعات شتى كالعقيدة والأحكام والأخلاق ووصفها الله سبحانه وتعالى بأنها:

– أحسن القصص

– فيها عبر وعظات

– صدق وحق

فقد عدّ عبد الكريم الخطيب المجاهد المغربي من أصول جزائرية هذا القصص “وثيقة تاريخية من أوثق ما بين يدي التاريخ من وثائق، فيما جاء فيه من أشخاص وأحداث وما يتصل بالأشخاص والأحداث من أمكنة وأزمنة”.

ألا تذكرون كيف أن الحكّائين الساردين عبر التاريخ كانوا ندماء الملوك ومرشديهم؟

ألا تعتقدون معي أن أروع ساردة في التاريخ العربي كانت شهرزاد التي بنيت على شخصيتها قصص وحكايات ألف ليلة وليلة، لمهارتها الفائقة في الرواية ونقل الحدث، وحيث تمكّنت من خلال القصص تطهير الملك شهريار من العقدة المتحكّمة به وإنقاذ بنات جنسها من جرائم انتقاماته.

من هنا يمكننا أن نفهم حقًا طبيعة العلاقة اللحمة التي تربط بين المؤلف والمتلقي، أو ما أطلق عليه ثلاثية السارد والمسرود والمسرود له.

إنني أراها مطابقة لعلاقة الشمس بالأرض، وعلاقة الماء بالحياة، وعلاقة الشجرة بالثمار.

وإذا انقطع هذا التيار في أحد اتجاهيه بين الكاتب والقارئ، أو بين أي فن من فنون التعبير والجهة المستهدفة منه، وإذا لم تتحقق إثارة الدهشة والدفع نحو التساؤل والرفض والنهوض لدى المتلقي القارئ، فإننا سنكون أمام احتمالين:

إما أن الكاتب لم يتقن الوصول إلى غايات فنه أو فحوى رسالته الفنية واكتفى بالبقاء على الشطآن دون الخوض في غمار التجارب الإنسانية، وإما أن القارئ لم يحسن قراءة السرد ومرافقة الكاتب في مغامرته واكتشاف المكنون من روح النص وجوهره ليولّد لديه الحوافز ويستفزّه ويثيره.

وفي الحالين فإن أحدهما قد فقد خاصيةً أو مزيّة من مزايا المثقف السارد أو المسرود له.

وسوف تبقى الرواية في مجال الترفيه والمتعة الفنية، ويبقى الكاتب الراوي في مجال السارد للأخبار والفاضح للأسرار والكاشف للخبايا بأسلوب فني إذا لم يحمل في فكره ورؤاه صفات ووظيفة المثقف، وإذا لم يتلبّس شخصية الأديب والشاعر والمفكر والرسام والإعلامي الاستقصائي الحر ويطلق العنان لحكاياته أحداثًا وشخصيات ومواقف وصراعًا وحبكة وصياغة أدبية تصويرية مبدعة، لكي يحوّل روايته إلى قصيدة ثورية تطلق نفير النهوض بعد نكئ الجراح وعرض الآلام والمظالم والمعاناة، وإلى أغنية ثائرة تقرع الأجراس على أبواب الضمائر لاستنهاضها، وإلى عرض سينمائي ومسرحي أخاذ يشعل النفوس المعذبة للتحرّر والخلاص. على الراوي المناطة به مهمة التوعية والتنوير، أن يخلق إنسانًا جديدًا، بطلًا ما، في نفس كل قارئ لا أن يستحوذ فقط على إعجابه ليتلقى منه الشكر والتقدير. ومن المهم كثيرًا أن نربط بين النتاج الأدبي أو الفني وبين مدلولاته الثقافية الخفية وما يحمله من قيم ورموز تكمن خلف الطبقة الجمالية الرقيقة وتعكس الواقع القائم بتناقضاته وصراعاته ومدى تأثيرها في الاختيارات المصيرية للفرد والمجتمع.

ولنتذكر جميعًا مساهمة الكثير من الروايات والقصص العربية والعالمية، ودورها في شحن العقول وتعبئة النفوس وإشعال تيارات الرفض والثورة ومشاركتها في رفع أصوات المعارضة في المجتمع بعد رصدها لوقائع الظلم والقهر.

وإن قصّة المناضلة الجزائرية “جميلة” التي تُعد رمزًا للكفاح والجهاد في سبيل استقلال الجزائر، والتي كتبها الأديب الروائي المصري الكبير يوسف السباعي، وكتب السيناريو والحوار الأدباء نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي وعلي الزرقاني تشارك في كتابتها مجموعة من كبار الكتاب المصريين، وتحوّلت إلى عرض سينمائي مدهش، أخرجه المخرج المصري الكبير يوسف شاهين، عام ١٩٥٨، وشارك في تمثيله ماجدة وأحمد مظهر وصلاح ذو الفقار ومحمود المليجي وتم عرضه في العديد من دول العالم تنديدًا بحكم الإعدام على جميلة بوحيرد، كما تم عرضه في مهرجانات عالمية، وأثار موجة من المظاهرات والتنديدات والمطالبة بالإفراج عن جميلة، وكتبت الصحف العالمية عن جميلة، وانتشرت جُملة “انقذوا جميلة” عبر وسائل الإعلام الغربية، في العالم كله وبالفعل نتيجة الضغوط، خففت فرنسا الحكم عليها من الاعدام للسجن المؤبد ومن ثم تم إطلاق سراحها بعد استقلال الجزائر، بفضل محاميها الفرنسي جاك فرجيس.

واستطاع هذا الفيلم التأثير في الشعب الفرنسي بشكل كبير، لدرجة تعاطف الفرنسيين مع جميلة فكتب الفيلسوف الفرنسي “جان بول سارتر”: “الفيلم جسد أمامي حجم الجرم الذي ارتكبناه في حق الإنسانية.

إن قصة جميلة بوحيرد، بأضلاعها الثلاثة، البطلة جميلة، وكتّاب قصتها ومبدعو فيلمها، والجمهور العريض العربي والفرنسي والعالمي الذي تلقّف واحتضن واستجاب ورفض واستنكر، مثّلوا جميعهم على أرض الواقع أروع ما يكون عليه التفاعل الثقافي بين الفكر والمجتمع، بين الطليعيين التنويريين، بين الكاتب والمتلقي.

فجميلة كانت رمز البطولة الوطنية والكتّاب وصنّاع الفيلم كانوا أفضل من جسّد هذا الرمز، أما الجمهور المتلقي فكانوا أصدق أنموذج للمثقفين الواعين.

وأخلص من هذا العرض التفصيلي لأقول إن تقييم المثقّف العربي بين كاتب ومتلقٍ لا ينبئ بمؤشرات السلامة، ليس لأن الروائيين الطليعيين التنويريين غائبون عن الساحة، وليس لأن القارئ موصد أبوابه للاستقبال، بل لأن ما يحيط بأغلب بلاد العرب اليوم هو غياب الثقافة الجامعة الواحدة.  حيث أصبح لكل فئة من فئات المجتمع ثقافته المنعزلة الخاصة والتي تتناقض في أحيان كثيرة مع ثقافة ابن مجتمعه ولغته وتاريخه. فالهوية أصبحت هويات، والانتماء أضحى انتماءات، والمطروح هنا مرفوضًا هناك، وخيم منطق بابل على فضائنا الثقافي المشرذم. ولا أقصد هنا أبدًا خرق خصوصيات الثقافة للمجتمعات إنما أريد أن أبين مدى الانشقاقات التي ضربت مفاهيم الثقافة العامة في قضايا الحرية والعدل والكرامة والوطنية والهوية.

وما كان ذلك ليحدث، إلا لأن المؤسسات المفترض فيها أن تكون حاضنة وراعية لهذه الوحدة الثقافية قد ضيّعت بوصلتها في خضّم الصراع على المصالح والمكتسبات الذاتية على حساب المصلحة الجامعة، فلا تربية متجانسة ولا تعليم متوافق ولا إعلام حر وطني نزيه ولا سياسة وطنية رافعة للتنوير والوعي، كل هذه المنظومات والمؤسسات المناط بها دعم تيار ثقافة الوعي وتنميته تخلّت عن رسالتها وغرقت في أتون المشاحنات وتقاسم المغانم، فكيف والحالة هذه من الانحدار والتشظي المسيطر والذي يزداد تجذّرًا يومًا بعد يوم، يمكن أن نأمل بتواصل التيار بين الأخوة الأعداء؟

لم تعد المسألة متوقفة عند حدود الكاتب والمتلقي، بل تعدّتها إلى قضية الثقافة نفسها وما أصابها في بنيتها من قصور وخلل.

 عندما نتحدث عن التواصل الثقافي في مجتمعاتنا العربية يبدو أمامنا واقع بلداننا التي انحسرت فيها تيارات التنوير وتراجع دور المثقف وحُجمت مكانته الاعتبارية داخل المؤسسات وفي الحاضنة الاجتماعية أيضًا… حالة التراجع التي شهدها العالم العربي معرفيًا لا يمكن أن تُختَصَر في السياسات التعليمية، أو أنْ تُحشَر داخل غُرف المنظومة التربوية. مما لا شك فيه أن المؤسسات غير الفاعلة ساهمت وتساهم في معادلة النكوص المعرفي والحضاري الذي أصاب بُنيات الوعي الجماعي، وعطل الحراك المعرفي في المجتمعات العربية منذ عصور.

إن التراجع الذي يتسارع في العالم العربي هو معرفي في الأساس، يحدث ذلك لأن الثقافة كمفهوم أولاً وكمشروع عملي ثانيًا وكشرطٍ حضاري ثالثًا تم اختزالها وتقزيم حضورها داخل هامش صغير لا يكادُ يؤثر وربما لا يكاد يُرى.

ومع امتداد الصراعات وتعقد القضايا والأزمات، وأمام تحديات الاستهلاك والإكراهات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، أصبحت المسألة الثقافة برمتها قضية ثانوية للغاية.

إن البنية الثقافية، والإرث الروحي، يحتاجان دائماً إلى تغذية مستمرة في ظل نظام اجتماعي وسياسي سليم.

Read more