رقص "الثلاثيات" فوق جثّة المغدور
د. علي حرب
خاص مجلة “المستقبل الكندي” / آذار 2021
مئة عام و”طبشة ميزان” على ولادة لبنان الكبير.
خمسة وتسعون عامًا على ولادة الدستور.
سبعة وسبعون عامًا “وحبّة بركة” على إعلان الميثاق والاستقلال.
اثنان وثلاثون عامًا “ورشّة كرم” على ولادة اتفاق الطائف لوقف الحرب الأهلية.
ثلاثة عشر عامًا على اتفاق الدوحة لإنهاء الصراع بين الموالاة والمعارضة والذي كاد يطيح بالسلم الأهلي.
كلّ هذا العمر، المحسوب على لبنان واللبنانيين، وكل هذه الولادات وما سبقها وما سيعقبها بالتأكيد، لم تكن إلا أوهامًا وأضغاث أحلام وخبطًا في عشوائيات الظلمات المخيّمة على هذا الكيان وأهله.
كل الولادات كانت قيصرية وقبل أوانها، فلا غرابة أن يأتي المولود “عجيبة” من عجائب الدنيا، مشوّهًا معوّقًا، غير قادر على البقاء إلا على أجهزة التنفّس المستوردة من الأسواق الأجنبية لعدم توفّرها في “فبركات صُنع في لبنان…وفخر الصناعة اللبنانية”.
بعد كل هذه الأعوام، وبعد كل المنازعات والثورات، من الثورة على “رمز الاستقلال” الرئيس بشارة الخوري، إلى الثورة على “فتى العروبة الأغرّ” الرئيس كميل شمعون، إلى الانقلاب السوري القومي الاجتماعي على الرئيس فؤاد شهاب، إلى الحرب الأهلية المدمّرة، إلى موجات الاجتياحات الاسرائيلية والاختطافات والاغتيالات، إلى مسلسل حروب الإلغاء الباردة والفاترة والساخنة، التي رافقت كل تلك الولادات، ما زلنا في لبنان، أسرى نظام مأزوم ومفخّخ وكسيح وعاجز عن النهوض، أسقط من على ظهره كل الراكبين.
بلى، إننا نعيش في ظلّ نظام مغدور فسدت جثته وتعفّنت وأضحت وكرًا للأوبئة الفتّاكة.
هل يمكن لمراقب أمين أن يؤكد أن لبنان الكبير حيًّ يرزق ويتربّع على خريطة سالمة آمنة لم تخضع حدودها للنهب والاختراق والاجتياح والمفاوضات حتى يومنا هذا؟
وهل يمكن لأحد أن يبرهن أن دستور لبنان وميثاقه محفوظين وغير منتهكَين ومغتصَبين آلاف المرات؟ وأنهما الفيصلان في مصير لبنان؟
وهل يمكن لأحد أن يثبت أن اتفاقي الطائف والدوحة نجحا في نزع فتيل الصراعات والاشتباكات والحروب بين اللبنانيين؟
بعد مئوية الولادة، ها هي اليوم أصداء صرخات البطريرك “الحويك” ونداءات البطريرك صفير (عام ٢٠٠٠)، تضجّ في أرجاء بكركي، وكأنها هي هي نابعة من أحلام الحرية والسيادة والاستقلال، بعد أن “غابت الحلول الداخلية بسبب عدم التفاهم المسيطر على الجو العام في لبنان، وعدم وجود أي حوار أو إتفاق..لأننا لم نعد قادرين على التفاهم”.
بعد مئوية الولادة، يعود مشهد التحضير لكل الاحتمالات المقلقة عبر الحشود والحشود المضادة، وعبر الاصطفافات الطائفية والمذهبية الحادّة، وعبر الدعوات المنادية لإنقاذ الكيان ونظامه ودستوره متحدّثة بلسان البطريركية المارونية عن “معاناتنا من وثيقة الوفاق الوطني التي صدرت عن الطائف والتي لم تنفّذ لا نصًا ولا روحًا، وعن الدستور وما يعانيه من ثغرات، وعن الميثاق الوطني الذي جدّده اتفاق الطائف”، مؤكدة “أننا خسرنا كل شيء ولم يعد هناك ما نخسره”.
وعبر دعوات وتهويلات مناوئة محذّرة من “أن أي كلام عن قرار دولي هو دعوة إلى الحرب واحتلال لبنان”، وأنه “إجهاز على صيغة لبنان”.
ولم يقتصر الحشد والتحشيد على مراكز المرجعيات الدينية والحزبية فحسب، بل امتدّ ليجتاح معاقل القصر الجمهوري، برئيسيه الشخصيّ والظلّ، الذي أعاد تعبئة أتباعه ومستشاريه للتصدّي لكل من يخالف أو يجاهر بمعارضته للارتكابات التي تطعن الدستور وتمعن في اغتياله مع كل استحقاق تحت شعار الميثاقية والتوافق والصلاحيات، ومقابل الحديث عن “خسارة كل شيء” لا يتورّع أحد منظّري العهد القوي من التصريح علانية أنه “فاز وانتصر بكل شيء”: “إن رئيس الجمهورية و”التيار الوطني الحر” ينتميان إلى محور الممانعة وهذا شرف لنا…وأن محورنا، أي محور الممانعة والمقاومة، انتصر لأنه محور الشرف لا التبعية”.
بعد مئوية الولادة، ها نحن وجهًا لوجه ومن غير أقنعة ولا مجاملة، نغرق ونُغرق الوطن في حرب الثلاثيات والمثالثات والثلثيات، وطلاسمها وأسرارها المعلنة والخفيّة في المحاور والمتاريس.
المثالثة في الحكم، والثلث المعطّل في الحكومة، والمثلّث “المقدّس” في الجيش والشعب والمقاومة، ومثلّث الدولة والجيش والشعب، والمثلّث “الاستراتيجي التاريخي” في عدم الانحياز والحياد والتحييد، ومثلّث الدستور والطائف وقرارات الشرعية الدولية، و”الثلاثية الذهبيّة” في الطائف والدستور والميثاق الوطني، ومثلث السيادة والحياد والميثاق، ومثلّث الدستور والطائف والمناصفة، ومثلت الحياد والسيادة والاستقرار، ومثلّث الحلّ الضائع في برمودا بين أميركا وفرنسا وإيران، ومثلّث المصير المفقود بين يمين ووسط ويسار، ومثلّث الأصوات المتعالية بين التدويل والتقسيم والفدرلة، ومثلّث المستقبل المرهون بين التمديد للرئيس عون أو التجديد له أو الرضوخ لانتخاب الصهر…
بعد مئوية الولادة، حلّت مواسم حصاد السموم من نظام صدئ متآكل، وضع كلّ “بيضه” في سلّة الرموز الدينية والطائفية، الذين باعوها عقودًا بالباطن إلى تجار السياسة ومقاولي الأحزاب والذين بدورهم استنبتوها جزرَة يلوّحون بها أمام أعين الشعب اللاهث على أعتابهم من أجل وظيفة أو رغيف خبز أو مقعد دراسي أو سرير في مستشفى…
فهل من يصدّق بعد اليوم، وبعد كل الذي نشهده من ويلات وكوارث وفضائح وتخرّصات وبذاءات وعنتريات، أننا نعيش تحت سقف نظام ديموقراطي برلماني حرّ يحمي الوطن ويحقّق لشعبه حياة كريمة؟
وهل من مجنون يطمئن اللبنانيين أن هذه الزمرة المافيوية الموتورة الحاكمة بمباركة شعبية مخدّرة وتابعة وخاضعة، وبغطاء مرجعي مذهبي وطائفي، يمكنها أن تقيم تفاهمًا أو تحقّق تقاربًا أو شبه إجماع على قضية واحدة من القضايا الوطنية العاصفة، أو أن تتفادى انفجارًا مرتقبًا وأن تقود وطنًا يتأرجح بين النزاع والموت؟
مجد لبنان ينتظر صوتًا حرًا في ورقة صغيرة تسقط في صندوق الاقتراع.، فهل نجرؤ مرّة واحدة على تحقيقه في الورقة القادمة، إذا كُتب لها أن تجد طريقًا إلى الصندوق؟ أم على دنيانا سلام الله متقلّبة في جهنّم أسيادها؟!…