صادقون في المعنى...كاذبون في الممارسة
الوطن في القلب...والدولة خارجه

بقلم: د. علي حرب

فاضحة تلك العبارة التي يطلقها بعض السياسيين، وبخاصة في لبنان.

فاضحة، لأنها تكشف هراءهم ونفاقهم من على ألسنتهم، التي تمرّست على الدجل والرياء.

لا أغالي ولا أبالغ، في هذا الوصف، لأن ما تنكره السياسة المضلّلة، تثبته الحقائق التاريخية عبر زمان الإنسان على هذا الكوكب.

والمقولة الفاضحة، هي تلك التي يتشدّق بها السياسيون عند كل مأزق أوقعوا فيه أوطانهم وشعوبهم، وما أكثرها في عالمنا العربي عمومًا، وفي لبنان بخاصة!

المقولة الفاضحة تراوغ المواطنين وتدغدغ مشاعر هويتهم الوطنية التي لا تقبل الزيف والكذب، وهذا ما يثبته أيضًا تدرّج الهويات التي يفاخر فيها الناس، عند الاصطدام والمواجهة بأي تحدٍّ يمكن أن يتراءى لهم بأنه يصيب عصب الانتماء إلى دين أو مذهب أو عرق أو وطن أو قرية…وحتى أي نادٍ رياضي أو تجمّع أو رابطة.

يتناطح السياسيون فيدّعون زيفًا: “أن لا أحد أكبر من الوطن”.

في المبدأ والمعنى، هو شعارصادق وأمين وحقيقي وراسخ، ولكن، في الممارسة والواقع العملي، هو دجل يركب الحقائق ليسوّق لغايات مشبوهة أو ليخفي وقائع ملموسة.

هم يتحدثون بمنطق “الدولة السياسية”، فيما الوطن، وهو أبو الدول بسياسييها وسياساتها، يرزح تحت نير دسائسهم ومماحكاتهم وتهافتهم على السلطة والجاه وتوارث الحكم.

الوطن مكانه في القلب والوجدان والضمير، فيما الدولة والسياسة هي خارج هذه المناطق الدافئة والحميمة والإنسانية.

الوطن جوهر والدولة عابرة.

تقول الحكمة السياسية: “لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك”، إنها حقيقة الحكم والدولة والسياسة.

إنما الأوطان تخالف هذه الحكمة، لأنها تدوم وتدوم وتدوم، وتتصل إلى الجميع، جيلًا بعد جيل، وعلى مدى عشرات آلاف السنين، لأنها تقوم على معادلة إنسانية خالصة بين التاريخ والجغرافيا والناس الذين يصنعون باستقرارهم ضمن هذه المعادلة، حضارتهم وتراثهم وثقافاتهم وقيمهم المشتركة، بغضّ النظر عن وزنها وشكلها وحجمها وامتدادها.

الأوطان، هي وليدة هذا المثلث الذهبي الذي لا يقوم إلا بأضلاعه الثلاثة.

قد تفقد المعادلة جزءًا من أحد أضلاعها لأسباب سياسية أو طبيعية أو إقتصادية أو عسكرية، لكنها تبقى متكئة ومستندة إلى الجزئين الآخرين، لتحافظ على روحها وجوهرها وتطبيقاتها، إلى حين زوال أسباب التجزؤ والعجز، وسرعان ما تستعيد لحمتها ونهوضها لتعيد بناء ذاتها من جديد مستفيدة مما واجهته لتتحاشاه في مراحل أخرى من حياتها.

الوطن كامن داخلك، تحمله كما تحمل عمرك ودمك وعنفوانك.

أما الدولة، فهي خارجة عنك، هي طارئة وعابرة ولا تسكنك، لأنها فقط موكلة بحماية الوطن وأهله، ورعاية مصالحه ومصالحهم، إنها لعبة الحنكة والتشاطر والفهلوة، تتبدّل وتتلوّن، تبعًا للمصالح والغايات، فيما الوطن هو النور وهو الجذور وهو الكيان وهو الهوية.
الدولة لا تمنحك هويتها، لكن الوطن هو الذي يفعل.

الدولة لا تمنحك الشعور بالفخر والاعتزاز والكبر، وإن فعلت فإلى حين، لكن الوطن هو الذي يفعل.

الدولة لا تدرج أصولك في سجلات المواطنية، إنما الوطن هو الذي يفعل، وتبقى دائمًا وأبدًا، وأينما حللت ورحلت، كنديًا من أصل لبناني، أو أميركيًا من أصل لبناني، أو سويديًا من أصل لبناني…الوطن هو الأصل والنسب.

الوطن يعيش فيك كما تعيش أنت الماضي والحاضر والمستقبل، كما تعيش الأحلام والطموح والأمل، لا يتخلى عن التشبّث بك حتى وأنت في أدنى درجات السلم وأقسى حالات الضعف والعجز والعوز.

من يتخلى عنك هي الدولة، هي السياسة، هي منظومة القوانين المرعية وأوركسترا رجال السياسة والإدارة التي تعزف على هذه “القوانين” ما يحلو لها من أنغام وألحان.

ويحدثونك بعد هذا عن “لا أحد أكبر من الوطن”.

ركبوا على ظهر الوطن ومدّدوا أرجلهم وناموا واستراحوا، من الجدّ إلى الأب إلى الإبن إلى الحفيد…ولهفوا خيراته وتحلّوا بماضيه وحاضره، ولا زالت شهيّتهم مفتوحة للتحلّي بمستقبله، ثم يلمّعون وجوههم وقرعات رؤوسهم، ويرفعون عقيرتهم منادين: “لا أحد أكبر من الوطن”.

يشعلون الحرائق، ويوقظون الفتن، ويخوّنون ويهدّدون، ويرسمون الخطوط الحمراء، ويرشقون المقدّسات الدينية والوطنية بقذارات مزابلهم، ويستبيحون المحرّمات، ويزوّرون التاريخ، ويجترون الفضائح، ويدوّرون الزوايا، ويشهرون رايات الحروب، ويطلقون أبواب جهنّم، ثم ينادون “لا أحد أكبر من الوطن”.

الدولة – السياسة، هي التي تغدق مزايا الآلهة على رجالاتها، من صاحب الفخامة إلى صاحب الدولة والسيادة والعطوفة والزعامة، لتوسّع هوّة التمييز بينهم وبين رعاياهم، فيما الوطن يشرّف جميع أبنائه فيساويهم بإسم المواطن، ولا لقب فوقه أو دونه.

صحيح جدًا ما تقولون، لأن “لا أحد أكبر من الوطن”، ولا أحد، مهما تعاظمت قوته وسلطانه وجبروته، يمكنه أو يُسمح له بأن يدّعي بأنه أكبر من الوطن، ولكن أقنعوا الناس بأنكم أنتم أيضًا أصغر من الوطن.