الدين...المعاملة
"وتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم"

بقلم الدكتور علي حرب

جريدة “الأخبار-النهار”

مونتريال / كندا

العدد 946

08/05/2019

سأكتب هذه المرة بعيدًا عن السياسة.

أرغب أن أشارككم معي في مفهوم التربية الصالحة وزرع روح الأخلاق ومساعدة الآخر.

مررت منذ فترة بثلاثة مواقف رقيقة فيّاضة بالمحبة والتعاون والمساعدة، بتلقائية وعفوية وفرح.

قبل أن أقرع مسامعكم بهذه المواقف، أودّ أن أعرّج سريعًا على المناسبة التي دعتني إلى حكايتها لكم.

في أعقاب مقابلة إذاعية جرت بمشاركتي مع سماحة العلامة ومثال الاعتدال والتنوير علي الأمين من لبنان، حيث تمّ التحاور خلالها في موضوع المذاهب والطوائف وعمليات الإرهاب والقتل التي تجول وتصول في أرجاء الدنيا باسم هذا الدين أو ذاك، جمعني لقاء مع بعض الأصدقاء كان موضوع المقابلة والأديان محورها الأساسي.

وقال أحدهم متحسّرًا متألمًا مما يجري: صدق من قال “لا تحدّثني كثيرًا عن الدين، ولكن دعني أرَ الدين في سلوكك وأخلاقك وتعاملاتك”.

فأجبته مؤيّدًا ومشدّدًا: أشكرك، فقد أوحيت لي بموضوع مقالتي القادمة. ومن هنا حضرتني هذه المواقف الثلاثة التي رغبت في عرضها أمامكم.

الموقف الأول، جرت وقائعه معي، صباح أحد الأيام، حين توجهت إلى أحد مراكز فحص الدم في منطقة لافال.

وصلت مبكّرًا لإجراء المطلوب.

أوقفت سيارتي في المكان المخصّص، وتوجهت نحو الماكينة الآلية لدفع الرسم المتوجب عليّ.

ما أن هممت بسحب بطاقة الفيزا من محفظتي، حتى سمعت أحد الأشخاص يناديني من نافذة سيارته ويشير إليّ.

أسرعت نحوه، وقد لمحت كبر سنّه، ظنًا مني بأنه بحاجة إلى مساعدة ما.

وصلت إليه وحييته.

مدّ يده إليّ بتذكرة لإيصال الموقف قائلاً: دفعت لموقف سيارتي لمدة ساعتين، وما زال الإيصال يسمح بالوقوف لمدة ساعة ونصف، ولم أعد بحاجة إليه، تفضل خذه.

نظرت إليه بإعجاب كبير، تناولت التذكرة منه، وأنا أمطره بوابل من الشكر والامتنان.

ابتسم وقال: نهارك سعيد.

عندما عدت إلى سيارتي لوضع التذكرة أمام الزجاج الأمامي، خطرت لي فكرة سريعة، فالتفت وإذا بالشخص الكريم يحاول الاستدارة بسيارته للخروج.

ناديت وأشرت إليه وأسرعت نحوه.

فتح شباك السيارة فبادرته قائلاً: آسف لإزعاجك، ولكن هل تقبل منّي أن أشاركك نصف رسم الموقف.

نظر إليّ مليًا وقال بصوت دافئ: لماذا تريد أن تحرمني نصف متعة العطاء والمساعدة؟!

يا الله!

انتابني شعور غامر بالتقدير والاحترام، وحضرتني نكتة سريعة فسألته: هل يمكنني أن أتشرّف باسمك ورقم هاتفك؟

أجاب بعفوية: لماذا؟

فقلت ضاحكًا: بناء لطلب الطبيب فإنني أقوم بإجراء فحص الدم كل ستة أشهر، وأريد في المرة القادمة أن أتصل بك حين الحضور إلى هذا المركز، فلربما أستطيع أن أمنحك لذة العطاء كاملة مرتين يا سيدي.

مدّ كفّه إليّ وهو غارق في الضحك، وشدّ على يدي قائلا: أجمل صباح لي في هذا اليوم.

الموقف الثاني، حصل خلال موجة الصقيع التي ضربت مونتريال خلال شتاء هذا العام.

كان البرد قارسًا ولاذعًا ذلك النهار، ساعة خرجت من أحد مراكز التسوّق الكبرى بعد لقاء مع بعض الأصدقاء.

قدت سيارتي متوجهًا نحو أحد المخارج، في طريقي حاولت أن اتحاشى السقوط في حفرة تسبح فيها التماسيح كما يقولون في لبنان، ولكن لسوء حظّي سقطت في حفرة أعمق منها وألعن، وما أكثرها وأخطرها في شوارع المدينة. وألحّ على الوصف بما “أخطرها”، على الرغم من أنوف كل البلديات التي تبرّر تقصيرها وتقاعسها في معالجة هذه الحفر، بالادعاء بأنها لا تشكل خطرًا جسيمًا على السائقين والسيارات، دون أن تعي أن ما يتكبّده السائقون من خسائر مادية جسيمة لشراء إطار و”حافة” أو جنط جديدين لعدّة مرات في أشهر قليلة بسبب هذه الحفر المنتشرة يمينًا ويسارًا وفي وسط الطرقات، أو لمخاطر الوقوع في حادث اصطدام مفاجئ عند محاولة الانحراف فجأة لتحاشي الوقوع في هذه الحفر، قد لا يقلّ عن مخاطر الإصابات الجسدية التي يتشدّقون بها!…

المهم، ما أن “طجّت” السيارة في الحفرة، حتى أدركت أنني أكلت “الضرب” ودخل الخازوق لآخره.

أمتارًا قليلة قطعتها، وبدأ مقود السيارة يستعصي بين يديّ.

لجأت إلى أقرب موقف لمحته أمامي، وكان مخصّصًا لمواقف السيارات عند أحد مطاعم الوجبات السريعة.

ترجلت ونظرت ويا للهول: الإطار تمرّد وخرج كليًّا من “الحافة” أو ما يعرف “بالجنط”.

لعنت في سرّي ساعة الخروج في مثل هذا اليوم الزمهرير، كما كلت الشتائم اللبنانية للحفر وللزفت الذي تخلّى عنها.

أخرجت عدّة تغيير الإطار وأنا أسأل الله أن يعينني على هذه العملية الشاقة في هذا الجو القاتل.

وفعلاً فقد رافقتني عناية المولى العزيز، فتمكّنت من رفع السيارة، وحلحلة البراغي بعد عناء طويل، حيث أصبح لهاثي مدفأة للجوار.

سحبت الإطار الممزّق، ثم رفعت الإطار البديل لأثبته مكانه. وهنا كانت الطامة الكبرى!

فقد انقطع الحيل وانهدّت الركب وتخشّب الظهر.

حاولت جاهدًا ولكن دون جدوى.

نظرت حولي كمن يستغيث. وإذ بأحد الطلاب المراهقين يمسك بذراع صديقته ويخرجان من المطعم، وخلفه مجموعة من الطلاب الآخرين كانوا قد حضروا من مدرستهم القريبة أثناء فترة الغداء.

ناديته وأنا على الرمق الأخير، وسألته المساعدة.

لكنه لوّح لي بيده وتابع سيره دونما اكتراث لحالي وكبر سني وضعفي.

وعدت أتلفت يمنة ويسرة طلبًا للنجدة.

وما هي إلاّ لحظات حتى رأيت تلك الفتاة تنهال بلكمات شديدة على كتف صديقها، وتصرخ في وجهه بعبارات لم أتمكن من سماعها، ثم استدارا نحوي وهي تشدّه من يده وقالت لي بلطف: نحن مستعدان لمساعدتك يا سيّد.

فرحت كثيرًا، وقلت حبذا لو ترفعان معي هذا الإطار لتثبيته في مكانه فقط، وأنا سأكمل العملية. وحدثتهما أثناءها عما تعرّضت له بسبب حفرتين متلاصقتين، ما إن فررت من إحداهما حتى سقطت في الأخرى.

وفعلاً، تساعدنا نحن الثلاثة وبثوان قليلة كانت همّة الشباب قادرة على قهر الصعاب.

وقفت شاكرًا وقلت على الطريقة اللبنانية: هل تسعداني بمشاركتي  بفنجان قهوة معًا؟

رفضا طلبي بأدب بالغ بحجة تأخرهما عن موعد الفصل الدراسي، لكن هذا الشاب كان أظرف وأفكه وأسرع بديهة مني فقال: يا سيّد، “المطبّات والحفر” أمامك كثيرة، وربما نساعدك ونقبل عرضك في “مطبّ” آخر، شريطة أن يكون ذلك في يوم إجازة مدرسيّة.

فضحكنا ونحن نرفع أيدينا السوداء الملطّخة بوحول العجلة وأوساخها.

أمّا الموقف الثالث، وقد تظنّون أنني أبالغ أو أغرق في أحلام اليقظة، ولكنها كلّ الحقيقة وكلّ الصدق.

حدث ذلك، في مركز فحص الدم نفسه، وبعد مرور سنة على الموقف الأول.

كنت داخلاً هذه المرة لأسلّم فقط العيّنة المطلوبة للفحص، وفي مثل هذه الحالة، لا داعي للتوقف في مواقف السيارات التي تستوجب الدفع، بل في مواقف خصّصت مجانًا، لمدة نصف ساعة، لمثل حالتي التي قد لا تستغرق أكثر من بضع دقائق.

دفعت باب الدخول وإذا بامرأة، في حوالي الأربعين من عمرها، تتأبط ذراع رجل يكبرها سنًّا بقليل، وقدّرت أنه زوجها.

أفسحت لهما مجالاً للخروج إحترامًا لهما.

شكرتني السيدة وبادرتني فورًا: شكرًا لك على لطفك، وأرجو أن تأخذ هذا الرقم للانتظار، فقد قطعته مبكّرًا لكنني مضطرة للعودة إلى عملي، فقد يساعدك على عدم الانتظار طويلاً إذا قطعت رقمًا جديدًا.

يا الله مرة أخرى!…

الموضوع لم يكن عابرًا ومصادفة كما حدث لي في المرة السابقة.

الأمر كان سلوكًا اجتماعيًا وأخلاقيًا متجذرًا في النفوس، ومعلنًا عن نفسه بكل عفويّة ورقّة ولطف واندفاع لمساعدة الآخر.

شكرت السيدة من الأعماق، وأعلمتها بأنني لا أحتاج إلى رقم للإنتظار لأنني آتٍ فقط لتسليم العيّنة، ورجوتها أن تقدّم رقمها لقادم آخر ربما كان بحاجة إليه.

إنها مواقف أخلاقية اجتماعية بامتياز، لكنها هذه المرة عملية وتطبيقية وواقعية محسوسة، تطبيقًا للمبادئ والشعارات والنظريات التي ننادي بها في بيوتنا ومدارسنا أمام أطفالنا.

لا أزعم، فيما أسرد هذه المواقف، بأننا نعيش داخل المدينة الفاضلة وبين أسراب الملائكة، فبعض من المواقف أو المشاهد الأخرى قد تصفعنا وتثير اشمئزازنا في الطرقات أو في الأماكن العامة أو الخاصة، لكنها بالتأكيد تبدو لنا شاذّة ومقزّزة وغير مألوفة في مجتمع نظيف في أخلاقه وسلوكه وتربيته.

“فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم                    إنّ التشبّهَ بالكرام فلاحُ”.

لا تنسوا، أن أحدًا من هؤلاء الأربعة الذي بادروا إلى مساعدتي، لم يسلني عن ديني وعرقي وجنسيتي وموقعي الاجتماعي، بل رأوا أمامهم أخًا إنسانًا قد يستحق العون لا أكثر ولا أقل.

مثاليّ ورائع وخيّر هو حضّ الأديان على التعاون والتحابّ والتآخي والمساعدة، لكن الأروع والأبهى هو أن يكسر هذا الحضّ جدران الإطار التي تسجنه داخل الخطب والدعوات والتبشيرات، ليشقّ طريقه إلى الحياة سلوكًا وفعلاً وممارسة علنية، تمامًا كما تنفض بذرة القمح عنها تراب الأرض لتشمق سنابل مثقلة بالخير والعطاء معلنة مواسم الحصاد للجميع.

الدين هو المعاملة…وبالمعاملة فقط تتجسّد فضائل الأديان!؟…