الإعلام وعالم الأطفال
د. علي حرب
كندا في 06/08/2021
إذ نتعهّد تشكيل شخصية الطفل السليم، المستقلّ، المتوازن والقادر على الابتكار وحل المشكلات، فإننا نشكّل ملامح المستقبل.
مع الكبار يسكن الماضي ومع الأطفال يولد المستقبل.
بعيدًا عن النظرة التقليدية لأثر الإعلام بعامة، فإننا حين نطرق عالم الأطفال، فإنما نتقصّد الرؤية الثقافية من جانبين:
الأول: حقوق الأطفال شرعًا وقانونًا.
والثاني: واجبنا المتاح في صنع مستقبلهم، ومستقبلنا ومستقبل العالم على أيديهم، كما نتوخّاه على الوجه الأفضل.
وعندما نتناول دور الإعلام بعامة، عرضًا و”وفرجة”، أو تواصلًا وتلاقحًا، فإنما لنؤكد مرة بعد مرة، الأثر الخطير والعميق الذي يتركه هذا القطاع الثقافي على المجتمع بعامة والأطفال بخاصة.
الضيف المقتحِم
إن أجهزة ووسائل الاتصال الجماهيري، تمثّل بمجملها مؤسسات ثقافية متنوّعة، تنضمّ بكل جدارة إلى المؤسسات التقليدية المكلّفة بتحقيق التنوير والتنشئة وتنمية الأطفال، والمرتكزة على الأسرة والمجتمع والرفاق ودور الحضانة والمدرسة، وقد تبزّها تأثيرًا نظرًا لما تتمتع به من مزايا الجذب والاستقطاب والإمتاع المشكّلة من اللون والصورة والأغنية والحركة والرقصة والحكاية الخفيفة اللطيفة والشخصيات الظريفة وفنتازيا العرض المحببة للأطفال والمحقّقة لأغراض النمو عن طريق المتعة والتخيّل والأجواء المرغوبة لديهم.
بداية فرضت وسائل الفرجة والعرض، المسرح والتلفاز والسينما، نفسها ضيوفًا مقيمة اقتحمت مجتمعاتنا ومنازلنا، تشاركنا جلساتنا وسهراتنا ونشاطاتنا، وتشدّنا لعروضها الممتعة والساحرة والمؤثرة كبارًا وصغارًا، ثم انضمت إليها وسائل التواصل الاجتماعي والمعروفة بـ”السوشيال ميديا”، لتكتمل بها العملية التثاقفية استقبالًا وإرسالًا، تلقّيًا وطرحًا بين فئات المجتمع.
ولم تكن هذه الوسائل بعيدة عن متناول الأطفال، أذ تلقّف القائمون عليها، وإن بنسب متفاوتة، وتقنيات مختلفة، وأصول وقواعد متباينة، مهمة أساسية ورابحة بالطبع، للمساهمة بدورها في تحقيق عمليات النمو لدى الأطفال على مختلف مراحل الطفولة المبكّرة والمتأخرة، وشكّلت رافدًا هامًا من روافد التنمية والثقافة عندهم، لعب دورًا كبيرًا في تنشيط دورة النمو سلوكًا وقيمًا وقدرات ومهارات، مع التحفّظ التام على البعض منها التي لم تؤسّس إنتاجاتها على الشروط والقواعد الملزمة تبعًا لنظريات علوم النفس التربوية وخصائص الطفولة ومراحلها واحتياجاتها وقدراتها المرحلية.
أدوار إيجابية
مما لا شك فيه، أن بعض هذه الوسائل، بالتزامه بمبدأي حقوق الأطفال والمستقبل، وتطبيقه للشروط والمعايير العلمية والتربوية، أدّى قسطًا معترفًا به في مهمّة جليلة لتنشئة الأطفال ونموّهم السليم، كما في تشكيل شخصياتهم وبلورة أفكارهم وخلق ملكة التخيّل عندهم، وتنمية مهاراتهم اللغوية والفكرية والنفسية والجسدية والاجتماعية والأخلاقية، وزرع الكثير من المفاهيم والقيم الصالحة في نفوسهم، كحب العمل والمساعدة والصدق والتنافس الشريف والإبداع والابتكار وما إليها، عبر التقليد والمحاكاة في اتباع الرمز والمثال، وعبر بثّ الرسائل الأخلاقية والاجتماعية والوطنية بمشهديات ممتعة متميّزة في النص والإخراج بعيدًا عن الوعظ المباشر والتلقين المحدّد والجاف.
الأمر الذي جعل من هذه الوسائل مركز استقطاب وجذب لدى الأطفال ترافقهم في مختلف ظروف نشاطاتهم وتحركاتهم اليومية، فيلهَون بعروضها، ويتناولون طعامهم على مرأى ومسمع رقصاتها وأغانيها، ويستسلمون للنوم على وقع أجواء حكاياتها الزاهية الوردية.
ولنا في الكثير الكثير من البرامج التلفازية والمجلات والكتب والأعمال المسرحية والأفلام السينمائية وأفلام الـ”سوشيال ميديا” وألعاب الأطفال الإلكترونية، العربية والعالمية، ما يعتبر بحق روائع في صناعة وتشكيل شخصيات الأطفال ومدّهم بزاد غزير من الفرص الناجحة لتحقيق نموّهم في مختلف جوانبه ومتطلباته. وكل هذه الأعمال بقيت على مدى سنوات علامة فارقة لاصقة في اذهان ومخيلات أطفالنا، كما سجّلت إنجازًا هامًا لهذه الوسائل في مسألة التنمية الطفولية. وبسبب الأهمية التي اكتسبتها هذه الوسائل فقد لجأت المؤسسات التعليمية والتربوية إلى اعتمادها كوسائل مساعدة في وظائفها، فأدخلت التلفزيون التعليمي (الدائرة المغلقة)، واستقدمت الإذاعة المدرسية، واهتمت بالصحف الجدارية، وخصّصت قاعات للمكتبة والعروض المسرحية والأفلام العلمية والثقافية، كما أدخلت في مناهجها برامج الأنشطة الحرة اللاصفية…
وإذا ما تعمّدت أن أظهر هذه الصورة الإيجابية الحقيقية لهذه الوسائل، في تحقيق الجانب الثقافي التربوي التنموي للأطفال، فلأنني مؤمن بالدور الكبير والأثر العميق والمسؤولية الهامة التي تترتّب على فريق إنتاجها، ابتداء من الفكرة والنصّ وانتهاء بالإخراج.
تقصير وغياب الرسالة ولكن، مع شديد الأسف، فقد تجلّت، منذ عدة سنوات ظاهرة تقصير واضح لهذه الوسائل في مجال مهمتها المطلوبة في عالم الأطفال، ولمسنا غياب الرسالة وتشويه الأهداف ضمن غايات التسويق والربح والتجارة، مما أساء كثيرًا لدورها في المساهمة بدورة التنمية الاجتماعية الشاملة، وثقافة الأطفال بصورة خاصة.
فقد رصدت الأبحاث أن كمية العنف المعروضة على شاشات هذه الوسائل ترتفع بشكل مطرد، حيث يشاهد الأطفال في بعض القنوات أكثر من أربعة آلاف مشهد عنف كل سنة، بما في ذلك القتل والاغتصاب، وأن حوالي 80 بالمئة من ألعاب الأطفال تحثّ على العنف والشراسة. وربطت هذه الدراسات بين العنف الممارس يوميًا في المحيط المدرسي والمجتمع والعنف الذي تبثّه البرامج على مختلف وسائل الاتصال الجماهيري، كما أظهرت أيضًا أن الأطفال، هم الفئة الأكثر عرضة للاضطرابات الانفعالية والعاطفية بسبب هذه البرامج.
واحتلت هذه الوسائل موقع الصدارة في ميدان التحفيز والتشويق لعلاقات جنسية غير قانونية، حيث يشاهد المراهقون المواظبون على متابعة بعض القنوات حوالي أكثر من عشرة آلاف مشهد جنسي في السنة.
وأكّد بعض علماء الاجتماع أن التلفاز مثلًا يعرّض المراهقين إلى متابعة مشاهد جنسية مخصّصة للكبار. هذه المشاهد المثيرة تبيح محاكاة ممارسات جنسية محظورة بدعوى أنها أعمال يقوم بها عامة النجوم.
ومن جانب خطير أيضًا، لعبت بعض البرامج التلفازية والأفلام الهابطة دورًا مؤثرًا ساهم في حقن تصوّرات تقرن بين الرجولة والفحولة والسلوكات الكحولية والتدخين. كما ساهم الإدمان على هذه الوسائل في تقلّص الطاقات الخيالية والإبداعية لدى الأطفال والمراهقين.
يضاف إلى هذه الأخطار ما تبثّه هذه الوسائل من أخبار ملفّقة وما تعرضه من مشاهد مزوّرة تعمل على إثارة الغرائز وتنشيط مشاعر الكراهية والانتقام.
آمال مرتجاة
على الرغم من هذه الصور السلبية، فإن وسائل الاتصال الجماهيري، تبقى ضرورة ملحّة لم يعد باستطاعة العالم التخلّي عنها.
وحتى تحافظ هذه الوسائل على دورها الرائد في التثقيف والتنوير والمتعة والتنمية والتأثير، تبقى الآمال معلّقة على المسؤولين عنها، شركات وحكومات، لأن يحققوا بعضًا من الأمور والتي يمكن أن نجملها بما يلي:
1- تخصيص مساحات محدّدة لبثّ ونشر برامج للأطفال.
2- تخصيص دائرة في كل من هذه الوسائل، المرئية منها والمقروءة والمسموعة، مهمتها تقديم مشاريع لإنتاج برامج للأطفال.
3- تجميع الطاقات المختصة والخبيرة لإنتاج برامج الأطفال.
4- بثّ برامج التوعية والإرشاد للآباء لكيفية التعامل مع البرامج ومراقبتها.
5- الحث على القراءة والمطالعة وعدم الإدمان على هذه الوسائل كأدوات للمعرفة والتسلية.
6- مواكبة ظروف العصر وما يحيط بالمجتمع من أزمات لنشر ثقافة السلامة، على غرار أزمة جائحة “كورونا” مثلًا، التي اجتاحت العالم وحوّلته إلى سجون منزلية لا نافذة لها إلا هذه الوسائل المتاحة.
7- دعوة الآباء لمحاكاة أدوار هذه الوسائل بمشاركة أطفالهم.