النمرود قتلته بعوضة!...
د. علي حرب
مجلة المستقبل الكندي – 15 آذار/ مارس 2021
أمّا وقد أصبح “القويّ” علينا “رهينةً ببغا بين وصيف وبغا”…
أما وقد تحوّل لبنان إلى جبال متصخّرة من مكبّات النفايات السياسية الفاسدة والمهترئة.
أمّا وقد تدحرجت كرة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي و”الأخلاقي السياسي” بكل ويلاتها، وعمّ ظلام التعطيل والتفشيل، وشُحذت أسنان الذئاب في تنازع السلطات والحقوق والصلاحيات.
أمأ وقد أصبح القتل، تفجيرًا واغتيالًا وقمعًا، قدرًا محتومًا على اللبنانيين.
أما وقد تحوّل الشعب إلى مواكب شهداء وقوافل مهجّرين وحطب جهنّم.
آنذاك، ومن بين الشظايا وخنادق الموت، تعالت صرخات الموجوعين بالظلم والجوع، نابعة من حناجر ثلّة من الأحرار الشرفاء، أعلنوها ثورة وطنية عفوية، خرجت إلى الساحات، وضمّت عشرات الآلاف، وجمعت في صفوفها النخبة الصافية من المثقفين والمحامين والأطباء والمهندسين والكتّاب والشعراء، على مختلف انتماءاتهم المذهبية والطائفية والحزبية والمناطقية.
جمّعتهم الآلام والمصائب، وشبكت ما بين أيديهم وقلوبهم وحناجرهم، فاندفعوا ثائرين يزعزعون اليأس ويشعلون الأمل ويهزّون ضمائر العتاة.
أجل، تلك كانت الصور الزاهية للانتفاضة – الثورة التي فجّرها الأحرار في أيامها الأولى. وتلك كانت مشاعل الأمل والرجاء بأولى خطوات المكبّلين بالحديد والنار نحو الخلاص والانعتاق.
ويا فرحة أُعدمت قبل أن تلامس الشفاه!
ويا شمسًا أُطفئت ولمّا تزل في فجر شروقها الأول!
ساذج وطيّب بعض شعبك أيها الوطن المنحور بزعمائه وساساته وأحزابه.
مساكين هؤلاء الطاهرون الذين اندفعوا بعفويتهم البريئة للمطالبة بحقوقهم، من غير أن يدركوا أن الراعي والذئب وأكثر أبناء الرعية من أخوانهم يتربّصون بهم عند أول جسر أو تقاطع.
ومن غير أن يعلموا أن شركاء لهم في العلّة والبلاء، لا زالوا عبيدًا وتابعين، سيخرجون من بين ظهرانيهم ليعُملوا بهم سيوف أسيادهم التي ما تعوّدت الحرية.
“إن العبد لا يُحسن الكرّ والفرّ ولكن يحسن الحَلب والصرّ.”
والعبد لا يثور إلا إذا تحرّرت إرادته من نير العبودية أولًا.
والعبد لا يخوض معارك الحرية ولا ينتصر، إلا إذا كان سيفه من صنع حريته وليس من صنع أسياده.
والعبد لا ينهض لإنقاذ الوطن، إلا إذا خرج من ظلمة الوطن الحقير والمذلّ لأسياده، ليستقبل شمس وطنه الذي يفرد جناحيه لريح الحرية.
هل أخطأ هؤلاء الشرفاء الأحرار؟ هل أضاعوا البوصلة؟ هل افتقدوا القيادة؟ هل أساءوا التنظيم وخرجوا بلا أهداف محدّدة؟ وهل أهملوا تقدير العواقب؟ وهل…؟
اتهامات وتنظيرات ضالة مجحفة ألصقت بهم ونُسبت إلى فشل الثورة في تحقيق ما ثارت من أجله.
ولكن أحدًا لم يسأل: هل ثمّة في دنيا المظالم والمفاسد والفظائع، وهل ثمّة في غابات الثعالب والذئاب والغيلان، وهل ثمّة في عوالم الأبالسة والجنّ الأزرق والأحمر، من هم أعتى وأخبث وأكثر إجرامًا من عصابات الطائفيات ومافيات الأحزاب ولصوص المغاور والمزارع المتسلطة على رقابنا وخيرات الوطن؟!…
والتي ما أن استشعرت انبعاث الدخان من القلوب المحترقة، حتى استنفرت بكل جنونها وأحقادها، فحشدت مرتزقتها، وأعدّت أمضى أسلحتها رصاصًا وقنابل وغازات وهراوات، وسواطير وعصيًا وحجارة، واستحضرت أبشع أدواتها المغرّدين في مجالسها وفي قصورها وقذفت بهم كتلة واحدة في وجه الثوّار الأبرياء، فأمعنوا بهم قتلًا واعتقالًا واغتيالًا، وتصدّروا شاشات التلفزة ووسائل التواصل ليطلقوا العنان لألسنتهم البذيئة ونَتَنِهم الصاعد من تحت زنانيرهم القذرة وجهًا وقفا، يشنّعون بها على الثوّار ويصفونهم بأقذع ما حوت معاجمهم من ألفاظ يبدو أنهم اعتادوا واستملحوا أن يخاطبوا بها أزلامهم وحاشيتهم.
ودار الحول دورته وزاد، وازدادت معه وعود عرقوب. ولكن بلى، ومن باب الوفاء والعرفان، نذكّر الذين فقدوا حافظاتهم، أن وعدًا قاطعًا قد تحقّق، بكل شعاراته السوداء الفاحشة، هو أننا، وبحمد عهد “الإفساد والتعتير”، قطعنا الرحلة بسلام إلى جهنّم، وبفضل القوي الثابت على مبدئه في عدم “التراجع عن التغيير”، وتجهيز وطننا الجهنمي بكل مستلزماته الضامنة لقطع الأنفاس وقبض الأرواح، فقد انبرى وزيره المكلّف بالظلمة بوعدنا “بالعتمة الغاشية”، وسارع سيّافه المكلّف بالمقصلة بتهنئتنا “بانكشاف البلد وانفلاتها على مواسم الاغتيال والتفجير”، ولم يتأخر عنهما رئيس جوقة الشرف المكلّف باستقبالنا على أرض الميعاد فهرول هو أيضًا ليزفّ لنا شرف “اعتكافه” تضامنًا مع القائمين على صحتنا الذين يؤكدون اعتزازهم ببلوغنا ذروة الكارثة الوبائبة.
وتردّد جمهرة المخدّرين: ماذا تريدون بعد أكثر أيها الطمّاعون الناكرون؟ وهل اقتنعتم الآن أنكم غوغائيون وعاقّون؟!…
مهلًا مهلًا يا وجه السعد وصاحب العهد والوعد. شعبك سيكون عاقًّا لحظة يتخلى عن انتفاضة كرامته، ولحظة يتوانى عن حقّه في تأمين رغيف الخبز لأبنائه وعلبة الحليب لأطفاله وحبة الدواء لمرضاه واسترداد المال المنهوب من مقامري البنوك، وحق دماء وأشلاء أحبائه المتفجّرة في مرفأ بيروت، وإنقاذ وطنه من براثن العفاريت.
يكفي شعبك العظيم شرفًا أنه كان يراهن بطيب طواياه على بقايا عدل يترنّح وبقايا قّسَم مهدور وبقايا ضمير متسوّس.
يكفيه إنجازًا أنه أسقط آخر ورقة توت تستر عوراتكم وعاهات أزلامكم وجوقاتكم الفاجرة.
يكفيه وطنية أنه أطلق مسيرة ثورية سلمية حضارية لم يشهدها العالم، وكشف أمام أعين الدنيا طبقة عفنة فاسدة تحكم أجمل الأوطان.
ويكفيه أنَفَة أنه عاف عيشًا مجبولًا بالسموم وغازات الأمونيوم.
سوف يخرج شعبك من نار جهنم كما خرج “إبراهيم” (ع) من محرقة “النمرود” الذي قتلته بعوضة.
ومن يعشْ، ممَن أغوته فتنة قزميّته، ومَن أعطته الكورونا جرعة بقاء إلى حين، يرَ زَلزلة عرشه وانتصار الوطن.