د. علي حرب
خاص / مجلة المستقبل الكندي – الأول من آب/ أغسطس 2021
لا يكذب التاريخ مهما زوّروه.
من جزم وقال إن التاريخ لا يعيد نفسه؟!…
بلى، إنه يتقمّص أسماءً ووجوهًا أخرى يحاكيها ويقلّدها سلوكًا ونزعات.
كان يُعرف بحذاء الجندي الصغير، ثم تحلّى بالزيّ العسكري الرسمي المصغّر.
كان في صغره يعاني اضطرابًا نفسيًا وذهنيًا، ومصابًا بمرض الصرع، ثم ساءت حالته فتناوبت عليه حالات الجنون والغيبوبة والهذيان.
كان مريضًا أحرقته العبقرية، حيث يثبت التاريخ أن الجنون والعبقرية كثيرًا ما يجتمعان.
كان يحلم بجسر يصل به إلى كوكب المشتري، ثم حوّلته لوثة السلطة إلى شاذ سادي استبدادي، وشيطان عبقري في التدمير والخراب.
حملته نخبة سياسية منتفعة ومتعفّنة ومتآكلة، تمارس أبشع حالات النفاق السياسي، إلى سدّة البلاط، فما لبث أن نكّل بمن حملوه واحدًا بعد الآخر.
عرف الفاسدون السارقون أنه مارق، يركبه جنون العظمة والسلطة، لكنهم أغمضوا عيونهم عن المأساة وقالوا “فليعش بيننا بخفاء”، كاشفين بعهر فاضح، عن مستوى الانحطاط الذي أصاب الأخلاق السياسية لتلك النخبة السياسية، التي “باتت تميّز بين التشريع والأخلاق وبين ما يخصّها وما يخصّ الشعب”.
كان مصرًّا على أن يكون وحده محتكرًا للسرقة والفساد، ومالكًا لمفاتيح خزائن البلاد.
لم يبق شأن لم يستبْحه: “أما أنا فأسرق بصراحة وحدي ولا شريك”. وأما أنا فأقضي بقضائي…وأما أنا فأقرّر دستوري… وعلى الجميع اختيار الميتة التي تناسب طموحهم.
وعد شعبه العظيم بإنجازات تغييرية وإصلاحية باهرة، فأحب شعبُه رئيسَهم القوي، لكنه سرعان ما تحوّل إلى طاغية جبّار، مجادل لكل الدساتير، ومستغلّ لكل السلطات التي بين يديه لتصفية منافسيه وإذلال شعبه الذي صنع طغيانه.
تحوّل زمانه إلى مجاعات وكوارث ودمار ودماء.
ركب حصانه وأعلنه عضوًا في مجلس الشيوخ، “أفلا يكفيه فخرًا أنه حمله وأدخله البلاط”؟!…
وعد شعبه أن يكون بديلًا عن الطاعون.
دبّ الهلع في قلوب الطغمة التي أتت بالدبّ إلى كرْم السلطة، وأسكنت أولاد الأفاعي في ردهات القصر.
توجّست رعبًا من جموح الوحش الذي رفعته إلى المئذنة، والدعوة لنفسه كإله يضارع القدرة على منح الحياة كما يبرع في إنهائها.
خافت الطغمة على امتيازاتها وحرمانها من حقّ نصيبها في النهب والفساد.
ثارت وقذفت الأحذية في وجه الطاغية انتقامًا لشرفها المهان: “إلى متى نبقى خاضعين لسلطة موتور مجنون”؟
طعنوه بالثلاثين ورموا به إلى قاع بئر عميقة إمعانًا في نسيانه.
وكانت نهاية الأسطورة.
سقط جدّ نيرون، كما سقط من بعده وارثوه جميعًا.
مسكين هذا الإمبراطور التعيس، لم تتحْ له فرص التلذّذ بوعد شعبه ليكون بديلًا عن جهنّم، ولا باعتلاء صهوة حماره لخوض المعارك الدنكيشوتية للتوريث، ولا التشفّي بتخزين الأمونيوم، وقطع نِعَم الدواء والكهرباء والخبز، وتفكيك أوصال الكيان “الكبير” وتقسيمه مربّعات مذهبية وطائفية.
يقول الطاغية: أنا الدولة…أنا الملك…أنا إله الوطن!…
تسأل الحكمة: ماذا يفعل الإنسان لو أضحى وحيدًا تمامًا، وحده في القمة ومعه الحرية الكاملة؟
وتجيب: أن مناطحة المستحيل مستحيلة.
وأن الطاغية لا يستطيع تحطيم كل شيء إلا إذا حطّم نفسه أيضًا.
وأن الشعب الذي لا يصنع التاريخ يحقّ للتاريخ أن يفجّره ويسحقه.
جاء في القاموس الفلسفي، للفيلسوف والكاتب الفرنسي “فولتير”: “يسمى الحاكم طاغية حينما لا يعرف قانونًا إلّا نزواته”.
ويقول الفيلسوف والمفكر السياسي الإنجليزي “جون لوك”: “حينما ينتهي القانون يبدأ الطغيان”.
ويقول أستاذ التاريخ الأديب الدكتور العربي السوري “شاكر مصطفى”: “كل الدكتاتوريين في التاريخ يصعدون ثم يصعدون، حتى تأتي اللحظة التي ينتهي فيها أمامهم السلّم الصاعد، فتكون الخطوة التالية هي خطوة النهاية…والخطوة الأخيرة”.
لا بدّ للكابوس الجاثم على صدر الوطن، والصاعد على سلّم ظهره، أن يبلغ اللحظة الأخيرة. وكم ستكون السقطة مدوّية؟!…
عن كاليجولا لبنان وشركائه قارعتِ الحكمةُ الطاغية.