"الله أكبر"..."نحن واحد"
د. علي منير حرب
جريدة “الأخبار-النهار”
مونتريال / كندا
العدد 943
17/04/2019
مرّة أخرى، وبعد مئات المجازر والهجمات الإرهابية الصادمة، جرت سيول الدم في نيوزلندا. وللمرة الألف، إنفجرت حناجر العالم، تنديدًا واستنكارًا لهذه الجرائم، وألصقت في أغلب مواقفها تهمة الإرهاب والقتل الحرام بهذا الدين أو ذاك، لاسيما الأديان السماوية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام. وكلما سالت الدماء في مسجد أو كنيسة أو كنيس أو معبد أو مدرسة أو شارع أو تجمّع…يتعالى صراخ بعض المنددّين على كل المنابر، مسترسلين في نكء الجراح التاريخية لدى الأطراف المختلفة، وكأنهم، بتنديدهم، يصبّون الزيت على النيران المتأججة، ويفتحون أبواب الغرائز والفتن والكراهية، لتكرّ سبّحة الاتهامات المتبادلة، ويدخل العارف والجاهل في نفق السجالات والمهاترات التي تستسقي دمًا جديدًا وضحايا آخرين.
إن دماء المصلّين الشهداء التي سالت في نيوزلندا ليست دماء إسلامية فحسب، بل هي دماء إنسانية جامعة، نزفت من قلوب وشرايين خلقت لتعمّر الكون وتبني لمستقبل الإنسان على هذه الأرض. إنها أيضًا وأيضًا، دماء مسيحية ويهودية وبوذية وإيزيدية… بريئة، تتساوى جميعها في كونها ضحايا.
وإن المسجدين اللذين شهدا المجزرة، ليسا مركزي عبادة إسلامية فحسب، بل هما بيتان من بيوت التقوى، يتساويان مع سائر بيوت العبادة في كونهما موئلًا للمصلّين الأبرياء الذين قتلوا بدم بارد وبجرائم جماعية، تحت قبّة كنيسة أو كنيس أو أي مصلى آخر.
ومن جانب ثان، فإن القاتل الإرهابي الأسترالي في نيوزلندا، ليس ولم ولن يكون مسيحيًّا تقيًّا مؤمنًا، لأن المسيحي المؤمن الحقّ، لا تعرف نفسه معنى الغلّ ولا البغضاء ولا الكراهية، وتلزمه تعاليمه والوصايا بأن: “لا تقتل، ولا تنطق باسم الربِّ إلهكَ باطلاً، لأن الربّ لا يُبرِئُ مَنْ نَطق باسمه باطلاً.”
إن هذا القاتل هو مجرّد آثم مجرم، مغسول الدماغ، هو كتلة ناريّة محشوّة بالكراهية والحقد، إرتكب جريمته النكراء في سياق تأجيج الغرائز، وتحت شعار الثأر والانتقام، وربما أنه، بدراية أو بغير دراية، بارتكابه الدموي، أتاح للمستفيدين والصائدين في المياه العكرة، والموغلين في مصّ الدماء، فرصة استمرار سيلان الدم الإنساني، وإدانة المسيحية بالقتل، كما أدين الاسلام أو اليهودية أو أي دين آخر، إضافة إلى محاولة نزع الصورة الناصعة عن نيوزلندا وعن أستراليا، أرقى بلدين للاعتدال والعيش في العالم.
إن هؤلاء القاتلين الإرهابيين، لا دين ولا عقيدة ولا مبدأ ولا شريعة لهم، كيفما انتشروا في مسمّيات الأديان وعلى مساحة الكرة الأرضية، إنهم وبعبارة واضحة لا تقبل التأويل، مسلمون ومسيحيون ويهود…لكنهم غير مؤمنين، “ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم” قدر ذرّة واحدة.
إن الدماء المسفوحة أخيرًا وليس آخرًا، في نيوزلندا، أو في أي بقعة أخرى، تستصرخ الضمائر، ضمائر الحكّام والحكومات والسياسيين والإعلاميين والكتّاب والأدباء ورجال الدين والمؤسسات الاجتماعية، ليكّفوا عن استنكاراتهم المبطّنة بالسموم والكراهية والحقد والانتقام.
تستصرخ كل الضمائر المعنيّة، وكل المقامات المسؤولة، لكي يحوّلوا تنديداتهم المفخّخة، إلى دعوات ووقائع صادقة إلى المحبة والتسامح والتعاطف والإخاء.
الدماء المسفوحة في نيوزلندا تنادي أن تتحوّل خُطبُ الجُمَع وعظات الآحاد والسبوت إلى دعوات وأفعال مشهودة وملموسة ومرئية للمحبة والسلام، في وجه من يشوّهون وجه الله.
“يَا أَولِادي، لا نحب بِالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحقّ”، و”لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”.
أن تتحوّل مواعيد الصلاة إلى لقاءات محبة تضمّ مختلف أتباع الديانات.
أن تتحوّل مراكز العبادة وعوائد التبرّعات والعطايا إلى ملاذات لكل المشرّدين والضعفاء والفقراء والأيتام والمعوزين، كيفما كان انتماؤهم الديني، وفقط لأنهم أخوة في الإنسانية.
وهي دعوة موصولة لكل التربويين بأن يفتتحوا أيامهم التعليمية بترسيخ الوعي والايمان بالمحبة والتعاطف والإخاء، مقرونة بوقائع ومبادرات فعلية ملموسة ومشهودة في نفوس الناشئة، كما لإدخال مادة “المحبة والسلام” في صلب المناهج الدراسية للطلاب.
وللإعلاميين عند تناولهم لمثل هذه الأحداث، بأن تكون أقلامهم مسخّرة ومتفانية في التجرّد والدعوة إلى المحبة والسلام بين الشعوب، لا إلى إثارة الغرائز وإيقاظ الفتن من مكامنها.
إن الدماء المسفوحة في نيوزلندا، تطالب بالكفّ عن اتهام الشرق أو الغرب بالتطرّف والإرهاب والكفر، فالشرق كان مهد الأديان وحاضنها ومرسلها إلى العالم أجمع، والغرب الحاضن للمسيحية سابقًا، بات حاضنًا لكل الشعوب والأديان والأعراق في أروع منظومة للتنوّع الإنساني البهيّ الخلاّق.
وللمناسبة وللعلم أيضًا، فإن اسم مدينة كرايستشيرش، التي نفّذ الإرهاب جريمته على أرضها، (كما أفادني سعادة السفير اللبناني الأسبق في كندا، مسعود معلوف)، “يعني كنيسة المسيح، أي أنها مدينة مسيحية منذ تأسيسها، وفيها جامعان على الأقل، وهذا يدلّ على مدى التعايش بين الأديان الذي تتميز به هذه المدينة.”
وأضاف السفير معلوف قائلاً: “إن ردة فعل رئيسة وزراء نيوزلندا أيضًا كانت موضع تقدير بالغ، وقد شاهدناها بالحجاب تواسي الناجين من المجزرة كما فعل معظم سكان نيوزلندا.”
والمسيحيون والمسلمون، الشرقيون تحديدًا، لم يتوانوا لحظة عن تلقين العالم لغة الإعتدال والتسامح والمحبة.
وعلماء الغرب وفلاسفتهم، يدركون حقيقة الإسلام وجوهره ونقائه، ويقدّرون غناه الروحي والاجتماعي، ربما أكثر بكثير مما يدركه ويقدّره بعض المسلمين أنفسهم.
أفلا تستحق كل الدماء المهدورة ظلمًا وقفة ضمير حيّ من مسؤول أو زعيم أو داعية أو صاحب مقام، ليتنادوا إلى قمة عالمية تحت شعار المحبة والإخاء، على غرار القمة التاريخية التي عقدت بالأمس القريب: “لقاء الأخوة الإنسانية”، بين قداسة البابا فرنسيس وسماحة شيخ الأزهر أحمد الطيّب؟
وهل أصبحت القمم السياسية أو الاقتصادية أو المناخية، أو الأحلاف والمناورات العسكرية المشتركة، الفارغة من أي مضمون إنساني، أهمّ من الإنسان نفسه؟
الإنسانية في خطر داهم!…ساعدوها بمسح الجراح وتنقية النفوس والأدمغة وإعادة كتابة التاريخ “الأبيض” لإنجازات الشعوب والدول، خاليًا من “سواد” الحقد والكراهية ومشاهد الدماء والقتل والمجازر.
دعونا نتكاتف لكي نتسامح إذا لم نقو على النسيان.
ساعدونا لنغرس المحبة في النفوس، فتزهر في أقوالنا وأفعالنا.
ساعدونا على ترسيخ الإيمان الصحيح وتطهير الأديان مما عَلّقوا بها من أدران وعفن وبغيضة.
ساعدونا لنستعيد وجه الله الرحمن الرحيم السلام العادل، ليجلو نوره “نور السموات والأرض”، الظلمة المعشّشة في دخائلنا.
وإلا…
وإلا فإن البديل المرعب الذي ينتظر الإنسانية، هو المزيد والمزيد من الدماء والضحايا الأبرياء والمجرمين والإرهابيين.
“الداعشية” تمدّدت وتطوّرت وتتمْسَحَت وتغوّلت وتحوّلت إلى “عولمية إرهابية” تطوّق العالم من مشرقه إلى مغربه، وتمهّد لطوفان الدم والجريمة.
الإنسانية لم تعدّ بحاجة إلى نهضة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، بقدر ما هي بحاجة إلى يقظة لروح المحبة الني دفنت تحت ركام المادّية المتوحشة. “ونحن قد عرفنا وصدّقنا المحبة التي لله فينا، الله محبة، ومن يثبت في المحبة، يثبت في الله والله فيه”.
“أيها الأحباء، لنحب بعضنا بعضًا، لأن المحبة هي من الله، وكل من يحب فقد وُلد من الله ويعرف الله”.
الإنسانية لم تعد بحاجة إلى أعداد إضافيّة من المسلمين والمسيحيين واليهود…، ليكونوا أدوات للقتل، بقدر ما هي بحاجة إلى مؤمنين صادقين، تسكنهم الخشية من الله، في معاملاتهم وممارساتهم وخطابهم للآخرين.
نحن بحاجة إلى التقوى والتقوى والتقوى…ولا شيء غير التقوى.
و”التقوى هي أن يجدك الله حيث أمرك وأن يفتقدك حيث نهاك”.
وأختم بكلمة أدلى بها السفير معلوف، في حديث تلفزيوني له، عن مأساة نيوزلندا، وهي تختصر كل ما يمكن أن يقال حول مفهوم التسامح والاعتدال والانفتاح في العالم الغربي، حيث قال: “لو كنت لاجئًا مسلمًا، وأعطيتُ إمكانية اختيار مكان اللجوء، لما اخترت إلا نيوزلندا لما ظهر فيها من محبة للاجئين وتعايش بين أبناء البلد.
وإن المجرم الذي نفّذ هذه العملية، بغية ترهيب اللاجئين المسلمين من القدوم إلى نيوزلندا، سيرى من سجنه المؤبّد، (اذ ألغت نيوزلندا حكم الإعدام عام ٢٠٠٧)، تزايدًا مستمرًا في قدوم المسلمين إلى هذا البلد نظرًا لما شاهدناه من مواقف مرحبة باللاجئين.”
من نيوزلندا، إخترق فضاء العالم صوت المؤذن ليعلن: “الله أكبر”.
وهل ثمّة رسالة عن المحبة والتعاطف، أروع وأنصع وأسمى مما قالته رئيسة وزراء نيوزلندا جاسيندا أرديرن، في ساحة هاغلي بارك، حيث أقيمت صلاة الجمعة (22/03/2019)، أمام خمسة آلاف شخص، عندما قرأت حديث الرسول العربي عليه الصلاة والسلام، مستخدمة اللغة العربية: “مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.”
وختمت بصرختها المدوّية في وجه التعصّب والتطرّف والإرهاب: “نحن واحد”!…
يا زعماء العالم، هل وصلتكم رسالة نيوزلندا!؟…,وما استعدادكم لمواجهة الحقبة الجديدة من “الداعشية البيضاء”؟!…