جسر المحبة

جسر محبّة من خيوط الشعر

د. علي منير حرب

26/05/2019

إنه جسر المحبة.

هو من لحم ودم وشرايين.

 يتسامى على خيوط من نور ما بين الأرض والسماء.

عرضه من الماء إلى الماء.

وطوله من الأرض إلى الأرض، من غير حدود مرسومة، ولا نقاط تفتيش، ولا حواجز مرور، ولا أنفاق ولا دهاليز.

إنه جسر مستقيم بلا عوج، يتنفس شاهقًا وزافرًا، ويتأوه ويتمايل ويتسامق ويتلوّى، كما سرب الغمام ووفود الطيور المهاجرة أو العائدة.

هو عابر للمحيطات وللآفاق والحجب من غير عمد.

تركبه الأرواح من غير إذن مرور ولا تذاكر سفر.

معجون من طينة كانت قد علقت بقدم آدم يوم ودّع جنّته.

ومجبول بأريجة ظلّت متغلغلة في كفّ حواء، يوم قبضت على التفاحة ووقعت وحبيبها في الجرم المشهود.

ومسبوك بذهب غريب، يشتعل وهجًا وضياءً، كان قد انزلق من بين يدي الشمس، فيما كانت تسرّح شعرها وتحبك جدائلها وتتبرّج إستعدادًا لموعدها مع القمر.

ومرصّع بزمردات وياقوتات ولؤلؤات ما حلم بها ظنّ بشر، كانت بعض من نجيمات الصباح قد نسيتها على شاطىء الأبدية، فيما كانت معجوقة بالسفر لتنقش وجه ليلٍ آخرَ بدأ في مكان ما من عرشها السماوي المتمدّد ما بين الأشفاق والأغساق.

ومرسوم بألوان بكر، انسابت من ريشة قوس قزح، فيما كان سكران أمام لوحته التي شكلها على وجه الأفق، وهو يحاول أن يسرق لحظة صحو ضاعت ما بين المطر والضوء.

إنه جسر لكل التائهين الذين ضيّعوا في ساعة حمقاء، دروب أوطانهم، فانزلقوا من ثقوب الجاذبية، وفقدوا أزمنتهم وذاكرتهم، ولم يتبقَ لهم إلاّ بعض حروفٍ مبعثرة من أسمائهم يحاولون أن يعيدوا تجميعها تنفيذًا لأوامر الرمال التي حطّت عليها ألواح مراكبهم المحطّمة.

وهو الجسر الذي غطّت على ضفافه كلّ طيور النوستالجيا لتطلق تغريداتها التي توقظ بها نيام الكهوف المسكونة بالرطوبة.

إنه جسر نسجته أحلام وتردّدات صدىً كسر حجب الأضلاع وقفز كالمجانين ينهر أسماع الدنيا لتصغي لأغنية عنّت يومًا على بال الجمال، فغنّاها ولملم بها كلّ خطوط الدمع التي إرتسمت ما بين الرمش وبين الفم.

إنه جسر لا يمرّ عليه إلا من امتلك جواز سفر إلهي يتيح له العبور إلى كلّ القلوب.

هو جسر ارتفع على شهقة قافية سمراء انعتقت من صدر عبقري فذ فريد، كان تعوّد ان يخزّن في حنجرته كلّ أسرار الأبجدية العربية العصماء. وكلّ بيارق الانتصارات العربية، وكلّ ذيول الخيبات العربية، وكلّ معارك الفرسان ومعلّقات الشعر مذ علّقت على جدار الكعبة إلى أن أشعلت منابر الخطباء وحروف المطابع، ليصنع منها سيوفًا ورماحًا وملاحم وقلائد وصهوات أفراس مطهّمة لحوريات القصائد.

واستجابت لها تنهيدة قافية خضراء، تفلّتت من معين الزاد المندلق على جانبيه جداول من شعر زمزم، فحوّلت بيت الشعر البدوي إلى سرايا تتطاول سقوفها لتقبّل فم المستحيل.

وشهقة تراود تنهيدة…

وتنهيدة تغامز شهقة…

تجمّعت حناجر وأوتار ترنّخت من بلل الديم المنهمرة.

وجاء من جاء من أهل الدار.

وقصد من قصد من آل بيت الخليل وأسرة الإمام سيّد البلاغة.

وتهافتت أسراب من العاشقين والحالمين بشم ّعطر لبنان الفوّاح في دنيا الله الواسعة.

وارتفعت العمد واحدًا يستند إلى آخر.

واكتمل  عرس الفراش والعصافير ومهرجان الألوان والأضواء.

هيّا عَطاشى الروح هذي زمزمٌ

فاضت عيونًا من رحيق الكوثرِ

طيْبًا ومسكًا في العروق تورّدت

جادت عصيرًا من كرام الأنهرِ

يا شعر،ُ يا ملك الكلام بلاغة

أطلقْ غناك غوىٍ وهلّل وأسكرِ

من بيت “أحمد” ضجّ الوحي فالتهبت

نار القصيد وجنّ اللحن بالوترِ