أطفالنا رصيدنا الأبيض
د. علي حرب
آب / أغسطس ٢٠٢٢
أدخل في هذه المقالة إلى عالم الكتابة للأطفال، الركن الأساس الذي يقوم عليه البناء الثقافي العام في المجتمعات الإنسانية.
عندما نتحدّث عن أدب الأطفال، فإننا نغامر في اقتحام المنطقة الحسّاسة في فضاء الثقافة، وما تحتّمه من مسؤولية جسيمة تلقى على عاتق المثقفين، وهي مسؤولية أخلاقية ووطنية معًا.
إذا كانت الثقافة بأوضح معانيها هي خلق الوعي والتنوير بهدف التغيير للأفضل، وإذا كان المثقّف هو مصدر هذا الفعل التغييري، فإن أدب الطفل يمثّل المدماك الأول وحجر الزاوية في هذا الطموح.
فيما نتحدث عن الإبداع في خدمة النشء، لا يغيب عن بالنا أن هذا الإبداع لا يكفيه امتلاك القدرة على إنتاج قصة أو مسرحية أو أغنية، بل يحتاج إلى ما فوق هذه المَلَكات المطلوبة في الكتابة للكبار والراشدين.
ولعلّ من أبرزها ثلاثًا لا ينهض العمل الفني بدونها:
الأولى: فهم مراحل الطفولة وخصائصها وشروط نموّها ومستويات قدراتها.
الثانية: احترام الطفولة.
الثالثة: حب الطفولة.
أحبّذ في هذا المقام أن أميل إلى أمرين:
الأول: إن الإبداع للأطفال هو حق جوهري من حقوق الطفولة، بل هو حق إلزامي متوجّب لأطفالنا لمنحهم أكبر الفرص الممكنة لتنشئتهم السليمة في كل جوانب نموّهم، وهو حق لا يقل قدرًا وخطورة عن حقهم المقدّس في الغذاء والصحة والرعاية والتعليم والحماية والأسرة.
والثاني: أن الإبداع للأطفال هو جزء من رصيدنا للمستقبل، فالطفل الذي بين أيدينا اليوم، هو مثال ساطع لشخصيات مجتمعاتنا في المستقبل القريب، هو صورة هذا المستقبل. هو طبيبنا ومهندسنا وحاكمنا وباني اقتصادنا، والرافعة المنتظرة لنقل مجتمعاتنا إلى الأفضل. والعكس مؤلم وسوداوي إذا أغفلنا هذا الحق.
إن بناء مواهب المستقبل، وبالتالي بناء عقول الأطفال، يبدأ من نعومة الأظافر، إن لم يكن قبل الولادة على حدّ القول السائد: “ثقّفوا أولادكم قبل الولادة.” وهذا البناء هو مسؤولية مشتركة بين الأهل والمربين وكتّاب الإبداع للأطفال.
من هنا يصحّ أن نطلق على من يكتب ويتولى تنشئة الأطفال، بأنهم مخطّطون استراتيجيون لتنمية مستقبل الوطن. لأن ما نريده لأطفالنا هو ألا نستنسخهم بصورنا، حتى لو كنا ناجحين، بل أن نشكّلهم بصورة الروّاد لعصر متغيّر.
يقول الفيلسوف وعالم النفس التربوي السويسري جان بياجيه: “إن الهدف الأساس من التربية هو خلق رجال قادرين على صنع أشياء جديدة، لا يقومون فقط بتكرار ما صنعته الأجيال السابقة، إنما رجال مبدعون مبتكرون ومكتشفون.”
فلذا يمكن أن نضمّ أدب الأطفال تحت مصطلح التربية الإبداعية، أو التربية الجمالية المكمّلة للإبداع، تيمّنًا بتعميم مفهوم التربية على كل المناهج التعليمية الحديثة، فلم يعد ثمّة حصة للموسيقى أو للرياضة أو للرسم، إنما أصبحت حصصًا للتربية البدنية والموسيقية والفنية….
فالتربية الإبداعية الجمالية لا بدّ أن تقود إلى تحوّلات، تحدث الفرق في تشكيل هويتنا، تحدث التغيير فينا وتجعلنا أشخاصًا آخرين. علينا أن نحدث التغيير. وهنا يكمن أهم جانب من جوانب الثقافة، وهو الهدف الفني الغني المحمّل بالكثير من جماليات الفكرة والصياغة والقصة والصورة والحركة والأحداث، بعيدًا عن جرعات الوعظ والإرشاد والإملاء الأخلاقي أو التربوي الحاد والمباشر.
فالعمل الابداعي المكرّس للطفل هو بحقيقته تحصينهم ضدّ احتمالات تفشّي أوبئة بعض الكبار الأشرار الذين أغفل أجدادنا تثقيفهم أثناء الطفولة.
أطفالنا هبة الله في التكوين وصناعتنا في التشكيل، وهم رصيدنا الأبيض الذي نخبّئه لمستقبلنا الأسود.
ومن أقدر من مربي الأجيال، على توجيه النصح لمن يتسلم راية تربية الأجيال الصاعدة. سلمت يدك يا صديقي.