العرّافة تكشف أستار التاريخ

حين عكفت على تدوين مقدّمة العرّافة، كان انشغالي منكبًّا على القارئ، ومنشغلًا بالتسلّل من بين أحداث الرواية ورموزها، وأبعادها وإسقاطاتها، في محاولة لكشف ما تغلغل في طيّاتها من أسرارٍ وألغازٍ ومفاجآت، بهدف تجهيز القارئ لدخول هذه المشهدية السردية، التي تعجّ خشبتُها بالغريب والعجيب من الأحداث والشخوص والأماكن والأسماء، وتحفيزه للتماهي مع المتشابهات والمفارقات التاريخية والإيديولوجية والاجتماعية والسياسية.

كان همّي أن أحضّ الحضورَ على المشاركة في عرض هذه الفانتازيا الدرامية البانورامية، ليكتشفوا أنهم ما كانوا يومًا غائبين عما يدور فيها وإن كانوا غير مدركين لهذه الحقيقة.

 

أما اليوم، وفي هذا اللقاء الركحي، كما نطلق عليه في تفكيكنا لعناصر بناء العمل المسرحي، فإنني سأحاول ما استطعت أن أدخل حلبةَ الكاتب، المفكّر الأديب المقتحم، الدكتور محمد إقبال حرب، للوقوف على سرّ هذا القلق الإنساني الفلسفي، والفوران الروائي، الذي يسكنُه لرفدِ القرّاء والمكتبة العربية والعالمية، بنتاج غزير قلّ نظيرُه، ابتكارًا وسبكًا ومشاكسة وجرأة وفرادة.

 

مع الدكتور حرب، علينا أن نوطّن أنفسنا بأننا أمام أديب مجادل ومحرّض ومشاغب، ومع شخصية فكرية وفلسفية من طراز علمي وسياسي واجتماعي خاص، عجنته التنوّعاتُ الثقافية، وسرت في عروقه نُسغٌ مختلفةٌ هُوياتُها.

في مجمل رواياته، الخارجةِ من عباءة نهجه ودأبه، والمتبرّجةِ بحلى العلوم وأبخرة المعامل والمختبرات، يبدو الكاتب منقّبًا عن الملعونِ الخفيّ الذي يتحكّم ببوصلة مركبة الحياة، من غير مهادنة ولا مصالحة.

في العرّافة، كما في سائر مدوّناته وتوليفاته القصصية والأدبية الأخرى، تلازمه صفةُ الطبيب الحكيم، المداوي للنفوس والعقول بالفكر والأدب، فلا يُسقِط المبضعَ من بين يديه، ولا يُبعد المنظار المكبّر عن عينيه، ولا ينثني عن التنقيب والتشريح في سويداء الدخائل ودهاليزها المظلمة، مما شكّل من مؤلفاته موسوعةً يمكن أن نطلق عليها “موسوعة التداوي بالأدب”.

 

زمن العرافة ليس وقفًا على أويقات تحوّلاتِ منقارِها من القاني إلى الأسود، إنما هو شجرةُ وجودنا الراسخة، الضاربةُ جذورُها في أعماق البدء والممتدةُ أغصانُها إلى ما لا نهاية، مع بعض النتوءات الخارجةِ أحيانًا عن النمطية المعتادة، وتتداخلُ فيه عناصر من الأساطير والأكاذيب، كما تتشابك المعضلات الفلسفية والوجودية المتعلقة بالهوية، والمصير، والسعي وراء حقيقةٍ التهمتها الأضاليلُ والمعتقداتُ الزائفةُ المركّبة، بأسلوب سردي شائق، غنيٍ بالمعاني والدلالات والإسقاطات التي تتخطى السطحَ لتُدخلَنا في مُناخٍ من الإثارة والغموض والسخرية والألم.

 

مع الدكتور حرب تسقط مقولةُ كان يا ما كان، كان في قديم الزمان، كان في مملكة فُلّان وعِلّان، ليصبح الذي كان ما فتئ كائنًا حاضرًا بين ظهرانينا، وما كان في حيّز محدود ما يزال قائمًا على وجه البسيطة كلها، وإن تلبّسَ مع كل شروق جلدًا وريشًا وأظافر ومناقير، وخداعًا وأطماعًا، من غير أن يبدّل في مقاييس طباعِهِ وجسمه وأطرافه.

 

إن هذا الاستخدامَ المتنوّعَ لمفهوم الزمان والمكان، وهذه الطواعيةَ في إيقاظ التاريخ واستحضاره، يعطيانِ بعدًا عميقًا للرواية لا سيما في تطبيقه على وقائع صراع الحضارات، وانهيار الإمبراطوريات، وزوال الممالك الكبرى التي هيمنت على العالم.

 

وإن شخصيات مجتمع أَهل الريش وفقّاسي البَيض والنقّارين ونقّادي الحُبوب والدِيدَان، هي رموز لحالات إنسانية أزلية، ونوازعُ وطبائعُ توحي بالسلطة والحرية، والخوف، والاستبداد والعنصرية والطموح، والتسلط، والانقياد، وكلُّها يمكن أن تُقرأ عبر سياقات تاريخية واجتماعية متنوعة تظهر في مختلف الثقافات والتاريخ البشري.

 

الرواية تُمثل المَهمةَ الجسيمةَ للمثقّف، التي لا تقتصر على مجرد سرد الأحداث أو طرح رمزي للقضايا الشائكة والأوبئة الفكرية المتفشّية، إنما هي فعلُ تحريض ودعوةٌ للتفكير النقدي. كما تقدّمُ جُرعة من اللقَاح الثقافي الذي يُحافظ على مناعة وصحة الوعي الجمعي والفردي، ويفتحُ العيون على الأسئلة التي تتعلق بوجودنا، وبالظلم الاجتماعي والسياسي، وبالتحديات التي نواجهها في “عالم متغيّر يتطلب البقاء فيه مزيدًا من المحبة والتسامح ومزيدًا من التعاون، في مواجهة عاصفة العمى التي ضربت الجميع وأسقطت الحضارة وكشفت تفاهة البشر”، على حدّ قول الكاتب حرب في قصته العميان الجدد.