التحريم في أدب الحريم
د. علي منير حرب
كندا في 2022/01/22
حين تفضلت الباحثة الناقدة الأكاديمية الدكتورة زينب لوت، باختياري لتقديم كتابها الموسوم “التحريم في أدب الحريم”، وأرسلت إليّ مدوّناتها التخطيطية لدراستها البحثية الواسعة، والعناوين العريضة لمضامين المدخل والفصول والعرض والخلاصات والخاتمة، وقفتُ على رمال التأمّل على مدى أيام، متهيّبًا ركوب الموج لهذا البحر الضارب بشطآنه على حدود الوجود الإنساني، والمختزِن في لججه حكايات التاريخ وأساطير الشعوب ووصايا الشرائع ونصوص القوانين وعادات الخلق وتقاليدهم منذ فجر الإنسانية حتى يومنا هذا.
وحين عزمت على الخوض قراءة وتفكّرًا وتحليلّا ومقارنات واستنتاجات، تمهيدًا لاستجماع الأطر التي سأضع فيها رؤيتي وانطباعاتي اللازمة لقواعد التقديم “للكتاب – الدراسة”، انكشف أمامي سرّ التهيّب إذ لاح لي حقًّا، أنه لا يدخل تحت عباءة الأدب أو فنونه، حتى ولو اتخذ من مرمى “أدب الحريم” عنوانًا رئيسًا، إنما يشكّل في واقعه وبنيته وركائزه وتفصيلاته، كما عرضته الباحثة، محيطًا صاخبًا مثقلًا بوقائع رحلة سندبادية شاقة، أقلّ ما يقال فيها إنها لا تقتصر على بروج “الأدب” ومنازله، وقد عبَرت فيها الباحثة جبالًا شاهقة، وفيافي مترامية، وأودية سحيقة، وغارَت في الأعماق بحثًا عن جذور “جندرية” تكوينية أنثوية وذكورية، ومعوّقات نسائية منعت المرأة من دخول ميادين الحياة وإنضاج ثمارها، وكلها تأصلت في أبعد أعماق الأرض، وشمخت عليها جذوع هائلة الضخامة بات من الصعوبة الحفر في قشرتها الصلدة، ونزع طبقاتها المتلاحمة منذ الأبد.
ما لفتني بداية هو تمثّل “التحريم” في أدب “الحريم” نصّا في الذاكرة الأدبية، علمًا أن مصطلح “الحريم” تمركز في هيكلية تناولنا للمسألة النسوية بعدما ورد منذ ما يقرب من أربعة آلاف عام، في عدد من المواد المدرجة في شرائع حمورابي البابلية، وعمّقه إلى حدّ التجذّر مختلف الكتابات القصصية والحكايات التاريخية والتي ورد أكثرها على لسان المرأة “الأنثى” نفسها وهي تصوّر أبهى حضورها في روزنامة التاريخ.
وما شدّني أيضًا لمرافقتها هذه الرحلة المغامرة، هو أنني مع انخراطي المبكّر في الحركة النسوية والنسائية، لم أقع على مدى ممارساتي ومواكبتي لهذه الحركة، إلّا على اليسير مما نقّبت عنه الباحثة لوت وكشفته وعرضته، تسجيلًا وتحليلًا ونقدًا، في هذه الدراسة المستفيضة لهذا الحراك الناهض الذي وُلدت شعلته غربًا، وشاعت تطبيقاته واتخذت لها مرجعيات دولية وقانونية في مختلف المجتمعات، ووصلت رياحها إلى عالمنا الشرقي العربي، على الرغم من بعض التحفظات التي لاحقتها.
وللحقيقة أعلن أنها أمدتني بإضافات وشواهد وأمثلة تاريخية وموضوعية وأنموذجية متنوعة لهذا التوجّه، مع ما أغنت به دراستها من تجارب أنثوية عربية متقدّمة في هذا المجال.
وتتجلى جهود الباحثة وتبرز قيمة الدراسة في النواحي التالية:
أنها دراسة موسوعية معمّقة، جمعتها بين دفّتي كتاب ليكوّن مرجعًا دقيقًا وشاملًا لكل من يطمح إلى البحث عن الحركة النسوية والوقوف على مصادر وأسباب نشوئها، ومراحل تطوّرها، والمواقف الفلسفية والعقدية التي واجهتها في طريق التطبيق. كما يشكّل سجلًا دقيقًا وهامًا لكل من يعنى بشؤون الأدب النسائي على امتداد الرقعة الإنسانية وعبر عصور مختلفة.
فقد بذلت الباحثة جهودًا مضنية من أجل استحضار الشهادات كافة، التي ترسم كل ملامح الصورة النمطية المشوّهة الظالمة للمرأة في عصورها الغابرة والوسطى والحديثة، وثّقتها بأدلّة دامغة طرحها معظم المفكّرين والفلاسفة في نظرياتهم، واعتبروها حقائق أزلية ثابتة ترسم الحدود القصوى لحضور هذا الكيان الاجتماعي الهام وهو المرأة، والتي عليها الخضوع لها وعدم تجاوزها كونها جزءًا من سنن الخلق والطبيعة البشرية في هذا الوجود.
فالمرأة كما حفرت صورتها أغلب الأساطير والشرائع قبل آلاف السنين، وكما أبرزتها وحدّدت ملامحها أكثر الوثائق والمعاملات والعادات عبر العصور اللاحقة، هي مخلوق تابع وقاصر وغير مبدع ولا منتج، أضيف إلى الطبيعة البشرية لإنجاز مهمة أساسية تقوم على توفير المتعة الجنسية للرجل والتخفيف من الأعباء والهموم التي تعيق طريقه للانتفاع بهذا الجانب المستحق تكريمًا وتفضيلًا لوجوده ودوره، وأن كل ما أنيط بها من أدوار ثانوية، كالحمل والإنجاب والرضاعة والعناية بالأطفال والأسرة…ما هو إلّا من باب استكمال مهمتها الأساسية الأولى المتعلقة بالرجل.
فهي عنصر من مجتمع “الحريم” المخصّص للذات الذكورية، والمسجون في قفص يمنع على أحد من غير أصحابه ومالكيه الاقتراب منه أو الدخول إليه، كما يحظّر على مسجوناته الخروج بغير إذن أو ترخيص.
والمرأة في أحافير ذاكراتنا العربية، هي العضو العاجز عن حماية نفسه وحماية أسرته، والجالب للعار والعوز للقبيلة وأسيادها، وما عليها إلّا أن تختفي وراء حاجز “العجُز” الذي يكوّن بيت الشَعْرِ البدوي عند العرب في الجاهلية، (وهو ما ترسّخ أيضًا في تقسيم بيت الشِعْر العربي في شطريه الصدر والعجز والأسباب والأوتاد)، وإمّا أن تجد نفسها موءودة مدفونة في التراب وهي حية خوفًا من العار والحاجة.
وهذه الدراسة تعتبر سبرًا لأغوار الموضوع النسوي والنسائي في مختلف وجوهه الجنسية والاقتصادية والأدبية والاجتماعية، ورصدًا دقيقًا وكاشفًا لمراحل تطوّر المسألة النسوية غربًا وشرقًا، وعبر محطات تاريخية تغطي كل الحقبات، نظرًا لما احتوته من طروحات ونظريات ومواقف وخبرات وتجارب وأسماء، تمّت على أيدي روّاد كبار ورائدات مقتحمات تجشّمن عبء المواجهة في هذا المجال، على الرغم من الترسّبات الصلبة العالقة فيه، ومن المعارضات التي واجهنها بفعل تجذّر الأثر الذكوري والتربية البابوية في النفوس والأفكار والعادات، وارتكازها على معتقدات موهومة في الشرائع والعقائد الدينية، وتأصّل القوانين الوضعية المرسّخة للتمييز لا للتمايز بين الجنسين، ومنح السلطة العليا للرجل في الشؤون والمواقع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والأدبية، وحشر دور المرأة داخل زنزانة الحريم المظلمة.
إصرار الباحثة على موقف الاعتدال من النصوص العقدية لا سيما الإسلامية منها، المتعلقة بكيان المرأة وحقوقها. تقول الباحثة لوت: “مُنحت المرأة في الإسلام مكانة عالية ومقدّسة، ترجمت واقع خصوصيتها من حيث التساوي الخَلقي لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ، واحِدَةٍ، وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (النساء:1)، فالرقابة الإلهية هي الوسيط بين أفعال البشر دون تميز بين الجنسين في العقاب و الثواب، ويظهر أن التقوى والأخلاق لا تخصيص فيها لجنس دون آخر فهي مسؤولية إنسانية أمام الخالق لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (سورة الحجرات الآية:13) تقدير الفعل دون تحديد جنس الفاعل فصل حكيم ومتجانس بين طرفي المجتمع الذكر والمؤنث، وهي حكمة الخالق في خلقه لولا بعض التوريث التأويلي الخاطئ لمعاني ظاهرة جسدت من خلال الطائفية المتطرفة لأزمة أخلاق تأكسد وجودها مع مصالح الانحراف الضمني للمقدس.”
وأضيف تأييدًا وإثباتًا، ما جاء في تأنيب وتقريع الظالمين للأنثى، كما ذكرتُ في كونها مجلبة للعار والعوز، في قوله تعالى في سورة التكوير الآية ٨: “وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت”. وفي سورة النحل الآيتان ٥٨ و٥٩: “وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسودًّا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بُشّر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون”.
تأكيد الباحثة على “ضرورة تجاوز الجماليات إلى الوعي الفكري وكينونة اللّغة كفعل ثقافي…”وعلى أهمية الوضوح لاستقراء المنجزات لأن الحرية مسألة وعي لا جسد والقضايا التي أطرحها مقترنة بالجوانب الخفية المضمرة وتخصيص أدبي ونقدي حول تحولات الفكر والتلقي في نفس الوقت من الجانب الثقافي …”
وهذه نقطة بالغة الأهمية في توجّه الدراسة، لأنها تأكيد على الهدف المنهجي العلمي من هذه الدراسة، والمتمثل بانتزاع الحقوق القانونية للمرأة دون الجموح في آفاق الحريات المتفلّتة التي ذهبت إليها مذاهب الحرية المطلقة لدى المرأة -في الغرب بعامة – وشكّل بالواقع انقلابًا على جوهر الحركة النسوية التي أطلقت نداءاتها من أجل تنقية الصورة المشوّهة للمرأة، وإعادة حقوقها المسلوبة، وحصرتها في نطاق الكينونة الجسدية دون بلوغ المرتبة الراقية والسامية التي تسعى لها المجتمعات المتقدمة لإعادة المرأة إلى موقعها المشارك في إنتاجيات الفكر والنهضة والتنوير.
أتساءل في سياق المنهج النقدي الثقافي الذي تتبناه الباحثة في دراستها، هل أن ما أشارت إليه الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار، وهي من السبّاقات في إطلاق الحركة النسوية، وقد اعتمدته الباحثة في صدر مدخلها لهذه الدراسة، في “أن المرأة لا تولد امرأة إنما تصبح امرأة”.
وأن ما جاء في توصيف الكاتبة البلغارية جوليا كريستيفا في مقالها “زمن النساء” في “أنه مع هذه الحركات النسوية الليبرالية أصبحت إمكانية تلاشي الفرق بين الجنسين أو النوعين واردة وممكنة نظرًا لمشاركتها في عمليات اتخاذ القرار والتي تعدّ انفتاحًا على الديموقراطيات السياسية”.
أتساءل، ونحن نعبر القرن الواحد والعشرين، هل ما نقع عليه في كثير من أدبيات “عدم” التحريم في أدب الحريم، يقدّم الدليل على أن المرأة نفسها قد أخرجت ذاتها فعلًا من شرنقة عزلتها وسجن جسدها الطاغي على مجمل حضورها الاجتماعي والفكري؟ أم أن بعضًا من النساء ما زلن “تولدن نساءً”…وأن “إمكانية تلاشي الفروق” ما زالت متعثّرة، حيث قرأنا أن (سيمون دي بوفوار) و( بيتي فريدان) تلقيان اللوم على المرأة ذاتها، في كتاب (السحر الأنثوي ) في ما يفسّر هجومًا على جذور التيار النسوي الليبرالي، كونه لم يسع إلا لتحقيق تساوي الفرص بين الرجل والمرأة، دون الولوج إلى قضايا المرأة والأسرة التي يلفها (الغموض النسوي) نفسه الذي يحيله الكثير من التساؤلات الغريبة الى ما يشبه “استدعاءات لشرور أخرى مضمرة”. ما يمكن اعتباره حركة نسائية مناوئة عطلت، في كثير من الأحيان، استكمال البرنامج الهادف إلى تحسين صورة المرأة العصرية المتحرّرة، حيث لعبت فيه المرأة بنفسها دورًا سلبيًا بعد أن أخذته الى مواضع ملغومة تحت شعار “الحريات المفتوحة” وأمعنت في تسويق جسدها ترسيخًا لتلك الصورة التقليدية التي نحاول إزالتها من العقول والنفوس والنصوص.
إن أكثر ما يثير لدينا المخاوف في هذه المسألة الحيوية لوجودنا الإنساني، هو أن نعتبر أو نستكين إلى أن المطالبات النسوية والنسائية قد استنفذت أغراضها واكتملت حلقاتها بتحقيق استلاب الحقوق المستحقة للأنثى من الرجل، والتي تحوّلت فيه القضية من تثبيت الحق للمظلومة إلى ممارسة الظلم الذي كانت ترفضه وتعاني منه، لا سيما وأن مسار هذه الحركة النهضوية لم يصل بعد إلى خواتيمه المرجوة، وما يزال بحاجة إلى المزيد من التفحّص والعناية الموضوعية والنقد والمراجعة والمتابعة، وخصوصًا تحت وطأة هجمة العولمة التي تجتاحنا والتي تروّج “لنمط ثقافي عابر للقارات” على حد تعبير الكاتبة رجاء نعمة في مقالاتها المعنونة “شيطان الجنس وضحاياه”، هذا التيار “الذي يسعى لتذويب الخصوصيات التي تعترض طريقه، أو حتى تدميرها بغية الإسراع في شق الطريق أمام مشاريع الاستثمار….التي تمسك بنفوس المفتونين بظاهرتها. بين شيطان العولمة ووهمها لعبة غواية تنشط فيها صور الجسد عمومًا وجسد المرأة بشكل خاص. إن كانت “شجرة المعرفة” رمز هذه الغواية في الزمن الغابر، فالاستثمار والاستهلاك هو الرمز الآن. وإن كانت الغواية الأولى أسقطت آدم من هناء الجنة فإلى أين تقودنا الغواية الراهنة اليوم؟”
إضافة إلى ما يتوجّب العمل عليه لإزالة ما تبقى من آثار عالقة في ثنايا أنساقنا اللغوية و”التي تعتبر ناقلة للتمايز بين الجنسين وعاملَ هدمٍ لمظاهر التمييز والهيمنة الذكورية” كما تصف ذلك الشاعرة والكاتبة وأستاذة علم الاجتماع آمال موسى في أحدث مقالاتها الذي جاء بعنوان “الرجل ما زال يسيطر على اللغة”، حيث ترى أن “مسألة اللغة رئيسية في مجتمعات ترنو إلى نقد النسق الثقافي وبناء نسق جديد يقطع مع ثقافة الهيمنة الذكورية والتمييز بين الجنسين. كما أن الخطاب الإعلامي والأدبي يسهمان في صنع تخييل يعزّز المساواة بين الجنسين ويهدم التمايزات التقليدية التي تعبّر عن مجتمع ذكوري الثقافة والقيم…واللغة هي النظام الفكري الذي يتكوّن فيه بُعد جوهري من أبعاد مضامين التنشئة الرمزيّة فإن إيلاء اللغة، في ندواتنا وخطابنا الإعلامي بشتى أنواعه وما يُنشر من أعمال إبداعية وما يتم تصويره من مسلسلات وأفلام، الانتباه المخصوص يصبح مسألة ذات أولويّة.”
إنني على يقين تام أن هذا المؤلَّف الموسوعي سوف يكون معينًا فيّاضًا يستقي منه الباحثون والمهتمون والمشتغلون في المسألتين النسوية والنسائية، كما استقيت أنا نفسي إضافات هامّة وثرية، ساهمت كثيرًا في تركيز الإضاءات حول تينك المسألتين.